جملة قضايا تشكّل بؤرة شعرية ينطلق منها الشاعر مهدي منصور في ديوانه "الظل فجر داكن" (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر). قضايا تختزل عالمًا وجوديًّا يتخبط المرء في أوحال تناقضاته من الولادة الى الموت. تقوم بنية القصائد عموما على ثنائيات ضدية تصطرع على مسرح كيان الشاعر، طرفاها الأساسيان: العقل والقلب.
في خضمّ هذا الصراع، نرى المستقبل خاسرا أساسيًّا في معركة يحاول فيها الشاعر أن يلوذ بالماضي، بطفولة يعرف تفاصيلها، لكنها لا تعرفه لما اصاب ملامحه من تشوّه في سرداب الحاضر: "الصغار الذين في آخر الحي/ لم يعرفوني/ ولم يعرفوا أن طفلا تعثّر بالعمر في طابق مهمل/ كل يوم يغنّي لهم معهم". هذا يمهّد به الشاعر ليشتري من العاذلين اعذارا يسوّغ بها تشاؤمه، فيجعل الغد لعبة قمار حيث الخاسرون فيها كثر: "الايام نرد كاذب الارقام/ والاحلام وعدٌ مضمحل".
هذا الجوّ التشاؤمي، ينعكس على انسانية الشاعر، فتتأجج في دخيلته نيران التدمير التي تصيب بحممها الذات، فيستحيل مازوشيًّا، يقترب من مشارف الدونية حين يصبح الحبّ عاجزا عن تحريك المشاعر فيلجأ الى الكتابة المتنفس الأكثر جدوى: "رغم انك كاملة الجرح في جسد أسمر كخطاياه/ ليس يفعل سحرك بي أي حلم عجوز/ إذا ما الكتابة أردت قواي بنهرين من فودكا/ ورمتني بحرية من علو عنيد/ على ليلة من ورق".
هذا من الناحية الشخصية. أما ثنائيات الصراع الاكثر تجسيدا لجدال العقل والقلب، فتتجلى عبر إبحار الشاعر في بحر التساؤلات الوجودية والمصيرية التي تدور في خلد كلّ منّا، فنطرحها حينا ونخاف من طرحها على انفسنا احيانا اخرى، والتي غالبا ما تركته شلوًا ممزقا تتلاعب به رياح القدر كورقة لا تعرف اتجاه المراسي: "وانا صدى متجعد في الريح/ وتائه قدّته كفّ الحزن من ارض القصيدة/ لا شأن لي/ والوقت يزلق من اصابع لهفتي".
يعلن الشاعر غير مرة خوفه من الغد، ومن التساؤل عما في غياهب الغيب. فالغد حقيقة مموهة، كلما حصلنا على جانب من جوانب احاجيها أفرخت الكثير مما تحار به الألباب، ما يجعله ينحني من وزر التساؤلات متقوّسًا ظهره امام ألغاز الاجابات التي تحتاج الى الكثير من التساؤلات الجديدة: "وفوق ظهر حنيني حمل قافلة/ حتى اشتبهت: هلال ذاك ام جسدي؟". يعترف بعدم هدايته، وأنّ باب الرشاد لم يفتح ليدٍ تعبت من قرعه، فيخاطب الله معترفاً بعجزه عن الانغماس في ما هو عصي على الاقناع. يحتمي بامتحانات الأولياء، مستعيرا منهم مساورة الشكوك لهم رغم المعجزات، فكيف بإنسان لا يملك من الحقائق سوى الاسئلة والتفكير المؤلم الذي لا بد منه. لكن الشاعر يرفض الاستسلام، ويرى التراجع عن التفكير مقتلًا لصاحبه على رغم جراحه وآلامه: "جرح التفكّر منعشي، وأموت لو/ يشفى فؤادي من نزيف جراحي".
يؤكّد هذا التخبط، ما نلاحظه من تمزّق الشاعر على حدّي المجرّد المطلق والمحسوس. نراه مرّة ينغمس في الحواس مرتميا بين احضانها، متخليا عن البواطن: "فالحب من شدة الشوق للدرب/ غادر قلبي الى قدمي". مرات اخرى نراه يخلع ثياب الجسد والمحسوس، ليرتدي قميص المتصوّفين لاجئًا الى الله من دون براهين علمية بل عبر استشعار قلبي: "انزع حجابك وانطلق يا صاح/ خلف الرؤى طيرا بغير جناح/ واسكب بدن الفكر اكسير النهى/ واسكر بخمر الروح لا بالراح/ أترى يزيل الحب اقنعة الدجى/ فتشع من عمق الفؤاد الضاحي/ ام انت نورٌ لا يُرى او ربما/في العتم تكمن حكمة المصباح".
لا يكتفي الشاعر باستعراض حالته التي تشير الى مدى عصابيته، بل نراه يستغل المناسبة ليجلد الواقع وما اكتسبناه من دون تفكير، حتى صار نمطًا من الصعب الخروج منه او عليه كي لا نكون متهمين ومشبوهين. يرفض غرائز ثقافية تحولت مع الايام الى أعراف تتشبّث بها القلوب وتُسقط على العقول اسقاطا، فيخاطب جدّه، رمز الماضي وعاداته، ساخرا من جيله الذي لا يتعامل مع غرائب الامور بطريقة علمية ومنطقية: "انا لم اخن حتى عباءتك التي في البرد تقتلني/ والجأ للصلاة اذا تأخر نهد يافعة/ او انكسفت بهذا الكون شمسٌ/ او تأخرت السماء عن الشتاء". ولا يقف عند حد العرض ولوم الواقع والنعي في الخرائب، انما يقدم رؤية للحل تتمثل في الخروج على المألوف والانشقاق عن الجسم القديم الذي اصبح صدئا باليا، عبر ثورة تطهيرية يرمز اليها بالنار.
هذه القضايا، يعرضها الشاعر بقالب فني يجعل من الصورة الشعرية برهانا على اثبات مضامينه، لكنه يظل وفيًّا للوزن ولا يخرج من تحت مظلة الخليل واصحاب شعر التفعيلة، فيجيء كلامه انسيابيا يستطيع التوفيق بين المعاني ويحشد الالفاظ التي تخدمها وتعبّر عنها بعيدا من التكلّف، مستأنسا ببعض الشعراء مستعيرا منهم بعض الايحاءات كأبي العلاء وحسن عبدالله.

