نصُّ كلمة الأديب ناجي نعمان، صاحب دار نعمان للثَّقافة،

في حَفل توقيع كتاب "يوغا في حَضرة عشتار" - قصر الأونِسكو - بيروت، في العاشر من آب 2010.

أيُّها الأحِبَّة،

أصيلاً أُونِسْكُوِيًّا دِنانُه ثقافةٌ حُرَّةٌ وأَنسَنَةٌ، وبَعدُ،

"الكُلُّ يشعُرُ، وما مِن شاعِرٍ، بل مُحاوِل"، خاطِرَةٌ كتَبتُ منذ زمن، ورَدَّدتُ حيثُما دَعَتِ الحاجة، وها إنِّي أسوقُها مُجَدَّدًا إلى المَسامِع. وأمَّا تَفسيرُها، فإلَيكَهُ يا مَهدي، وإلَيكُمُهُ أيُّها الأحبَّة، في كلِّ اختِصار:

جَميعُنا نَشعُر، وبالتَّالي، جميعُنا شُعراء بالقوَّة؛ وما مِن شاعر، أي ما مِن شاعرٍ بالفِعل، لأنَّ الشَّاعرَ الشَّاعرَ، بالنِّسبة إليَّ على الأقلّ، أمرٌ عظيمٌ عظيم.

ما مِن شَعَرَةٍ، في عُرفي إذًا، بَل بَشَرٌ يَسعَون لِبُلوغ مَرتبة الشَّاعِر؛ والسَّاعي إلى مرتبة الشَّاعر الشَّاعر - وعُذرًا للتَّشبيه - كمَن يَسعى إلى مرتبة الألوهَة؛ ولا مُسايَرَةَ في الأمر!

-2-

وإنِّي لأُطَمئِنُكَ، عزيزي مَهدي - بعدَ هذه المُقَدِّمَةِ المُحبِطَةِ كلَّ شُوَيعِر، المُغبِطَةِ كلَّ سائِرٍ بِرضاه إلى مَذبح الشِّعر، وكلَّ ثائِرٍ على أحوال شِعر اليوم وشُعرائه، أقولُ، أُطَمئِنُكَ، ذلكَ أنَّكَ:

• مَفطورٌ على الشِّعر، والشِّعرُ، قبلَ كلِّ شيءٍ، فِطرَة؛
• مُتابِعٌ في جِدٍّ مَسيرتَك الأدبيَّة، صاقِلٌ إيَّاها، مُنسابٌ مع ما تُمليه عليكَ النَّفس؛
• مُتَلَقِّفٌ آراءَ الآخرين، واعٍ في اختِيار الصَّائِب منها؛
• صاحِبُ فِكرٍ مُنفَتِح، والانفِتاحُ طريقُ كلِّ إبداع.

ويا أيُّها العَزيزُ مَهدي:

- ثِقْ في أنَّ الحياةَ سَعيٌ مُتَواصِل، وفي شتَّى المَيادين، فما بالُكَ بالأدبِ، أصعَبِها؟

- لا تُجبِرْ نفسَك على الكتابة يومًا، فإنَّما الكتابةُ دَفْقُ روح.

- لا تَقُل قالوا، بل قُلْ: قُلتُ؛ ولا تُقَلِّدْ، في الكِتابة، أحدًا، بَل تَمَيَّز؛ وكي تَتَمَيَّزَ "دَعِ الطَّبيعةَ تَتَفاعلُ فيكَ، وأَقدِمْ".

- لا تَجعَلِ اللُّغةَ أو اللَّهجَةَ، أيًّا تَكُنْ، تَرتفِعُ عائِقًا أمام إبداعِك؛ لكن، متى كتَبتَ، احتَرِمِ اللُّغَةَ، وحتَّى اللَّهجةَ الَّتي تَكتُبُ بها، فاللَّهجةُ مَشروعُ لغةٍ هي، ولا بُدَّ لها، هي الأخرى، من ضَوابِط.

- إِغرِفْ من الضَّاد، من مُحيطِها، ما استطَعتَ؛ غُصْ في أعماقها تَجِدِ "اللُّؤلؤَ والمَرجان"؛ حافِظْ عليها، طَوِّرْها دونَما استِباحة، سَهِّلْها دونَما استِسهال، فهي لغةُ نِصف المِليار عَمَّا قريب. ولا تُعَقِّدَنَّكَ عَرَبيَّتُنا الرَّائعة، بَل حاوِلِ الإمساكَ بها، يومًا بعدَ يوم، وإلى آخر العُمر؛ ثمَّ إنَّ الكلَّ، في اللُّغة، يُخطِئ؛ ومَن يقولُ عكسَ ذلك، فهو، بالتَّأكيد، مُخطِئ.

-3-

ويا عزيزي:

- إنْ قارَبْتَ رَمزيَّةً، اجعَلْها مُحبَّبَةً، قابلَةً للتَّفكيك، فالفَهم، لا مَقيتَةً لا يَفُكُّ طَلاسِمَها حتَّى صاحبُها.

- كُنْ نَرجِسيًّا؛ نَعَم، كُنْ نَرجِسيًّا، فلا إبداعَ مُمكِنًا من دون النَّرجِسيَّة؛ ولكن، حَذارِ أنْ تَسمَحَ لتلك الشَّيطانَةِ أنْ تَجعَلَ البُخارَ في رأسِكَ يُعْلي رِجلَيكَ عن الأرض، ففي ذلك قَتلُ أيِّ إبداعٍ مُمكِن، لا بَل نهايةُ كلِّ إنسان.

- حَلِّقْ دائمًا؛ بالفِكرِ حَلِّقْ، وعَبِّر؛ فوَحدَه الفِكرُ يُبدِع، ووَحدَه الصَّامِدُ، ولاسيَّما عندما يُنقَلُ الأدبُ إلى لغاتٍ أخرى، وشِعرُكَ سيُنقَل.

- شَدِّدْ على الحِكَميِّ من الشِّعر، فهو الأبقى، وعلى الفَصيح منه، فهو الأوسَعُ انتِشارًا.

- وألا اعْلَم أنَّ "الثَّقافةَ لا تُشرى ولا تُباع"، فلا تَبخَلْ بها على طالِبٍ يومًا، ورَدِّدْ، دائمًا وأبدًا، أنْ "رَبِّي، زِدْني عِلمًا".

- خُذْ بنُصْح المُحِبِّين، ولا يُقلِقَنَّكَ نَقدُ الحاسِدين، وما أقلَّ الأوَّلين، وأكثرَ الأخيرين، ويا لَلأسَف، في عالَم الأدب!

- إفرَحْ لأيِّ عملٍ أدبيٍّ يَصدرُ في الأقاصي، أقاصيها، ولا تَنتَظِرْ من أعمالكَ مَردودًا، أو عنها إطراءً من أحد، لا بَل لا تَقبَلِ الإطراءَ من الكَذَبَة، ذَوي الألفِ وَجه، مُدَّعي الثَّقافة.

-4-

وأخيرًا:

- إِتَّخِذْ لكَ مِهنةً تَكسِبُ منها عَيشَك - وقد عَلِمْتُ أنْ، في تَلقين الفيزياء، أنتَ مُبَرِّز - فعُظماءُ الأدب، أحرارُهم، في أرض العُرْب، ماتوا جوعًا، ويَموتون؛ واعتَمِدْ على نفسِك، وعلى نفسِك فقط: كَوِّنْ "جُمهوريَّتَك" و"أدبَك"، ولاسيَّما متى كانَ الزَّمنُ زمنَ اللاَّجُمهوريَّة و/أو اللاَّأدَب.

عزيزي، يا بَهيَّ الطَّلعَة، ومُرهَفَ الحِسِّ، وحُلوَ العِشرَة، طَيِّبَها:

أنتَ مَهديٌّ، إذْ لا شكَّ عندي في أنَّكَ ستأخُذُ بالهُدى؛ ومَنصورٌ أنتَ، بِجَهدِكَ، وبإذنه تَعالى؛ وأنا أنتظرُ، منكَ ولكَ، الكثيرَ الكثير؛ ولا بُدَّ لمَملكة الشِّعر أنْ تَفتحَ لكَ حِضنَها يومًا، تمامًا كما تُفسِحُ لكَ "عِشتارُكَ" اليومَ في المَجال لِتُمارِسَ "اليُوغا في حَضرتها".

هَنيئًا لك، يا ابنَ الجَنوب، ديوانُك الجديد، هديَّةً من ابنَةِ الجَنوب، الوالدةِ الحبيبة، أنجليك باشا، على أمَل أن تَتَوَطَّدَ الرَّوابِطُ الأسَرِيَّةُ في لبنانِنا المُفَدَّى، أيضًا وأيضًا، كَيما يَقومَ، أخيرًا، من كَبْوةٍ كادَتْ لا تُبقي فيه فارِسًا، لا، ولا فَرَسًا.

ألا زالَتِ الثَّقافةُ نِبراسَ الأحرار في كلِّ مكان.

ودُمتُم،

                                                         ناجي نعمان