حسن عبدالله "شاعر المطرقة" في "ظل الوردة"
حسن عبدالله "شاعر المطرقة" في "ظل الوردة"
بعيداً عن شعر الشعب والغنائية المفرطة، وقريباً من لغة ما قبل الطوفان، تلك اللغة النيئة البدائية التي كان صرفُها الحس ونحوُها الخيال، زوّج المتأمّل حسن عبدالله بصورة بهيّة، وعلى طريقة "هردر"، الإنسان من الطبيعة. وبقراءة متأنية يعبر القارئ نهر الحنين المتدفق بين ضفتين واضحتين يتمثلان بالمبنى الوجودي وما فيه من نظرة إلى الشعر والكون والمبنى الواقعي وما فيه من نظرة إلى الحياة بتفاصيلها وشعرنتها.
التوغّل عميقاً في الحياة جليٌّ في رحلة هذا الشاعر المملوء بالقلق، وهو الذي يشعرُ أنه دُفعَ إليها قبلَ أن يُنجزَ وكان يُمكنُ أن يكونَ في تقويمٍ أحسنَ، وما الأيّام المعاشة غير مرحلةٍ ما من مراحل التكوين التي قد تستمر إلى ما وراء الوقت، وبهذا يقرأ العارفُ لغةً ميتاشعرية لتحقيق ما هو كلّي للإنسان الذي ينظر في مرآة الآتي عن بقايا من زمن الآلهة ويقفز فوق زمن الأبطال. لهذا لم يعد الشعرُ في "ظل الوردة" صياغة أو ضرباً من التصوير بل على طريقة "هوراس" و"سيمونيدس" رسماً ناطقاً وشعراً صامتاً ومقتضباً إذ يتبدّى ذلك من لوحة الغلاف إلى لوحات المضمون، ولعلَّ أجمل المفارقات في هذه المجموعة هي أنّ الشاعر الوجودي وافق في مواضع وخالف في مواضع أخرى اثنين من ألمع الشخصيات: "يونغ" الشاعر والناقد الذي قال:"إن المحاكاة نوعان، محاكاة الطبيعة ومحاكاة المؤلفين الآخرين الذين نسميهم "الأصالة"، وتوماس يونغ الفيزيائي المعروف الذي مرّر الضوء من خلال شباك مجهري فانتشر بشكل مفاجئ بدل أن يأخذ حجم النافذة المتناهية الصغر، ورأى على الحائط المقابل بقعاً من الضوء وأخرى معتمة، كطلاب يرتصفون صبيحة كل يوم مدرسي في مسافات متساوية وأطوال متناسبة.
الحقيقة، أن تجليات الشاعر أدّت به إلى أن يطرح محاكاة جديدة لطبيعة كنا نظن أننا نعرفها، وذلك عندما سخّر المرئي واللامرئي في فرن حواسه، وأنتج ما يمكن أن نسميه عند توماس يونغ بمفاجأة الانتشار، لذلك وعلى طريقة "النفري" نلمح اتساعًا في الرؤيا متناسبًا مع ضيق العبارة. وهنا أسمح لنفسي أن أسمّي الشاعر بـ "شاعر المطرقة"، وكثيرة هي الأدلة التي تدعم ما نقول من الأسئلة الوجودية التي ترد الشعر إلى أصل كينونته، أو كـ "لماذا نشعر بالخوف عندما تهبنا الحياة أكثر مما نتوقع"، أو عندما "يحدّق في الظلمة الكامنة في أعماق الضوء نفسه"، وحين "لم يعد قادرًا إلا على مجرد التقدم في العمر".
في مقابل ذلك، يحسب على الشاعر، أنه حاكى المؤلفين الآخرين عبر تقليد "الأصالة"، في واقعة أخرى، ونرمز بهذا ببقع العتم التي تحشر نفسها كقطّ شتوي بين صيفين ناضجي المعاني والأمنيات. سنراه عندما يتكلم عن عدالة الموت يعيد بشكل آخر كلامًا قيل منذ ما قبل الجاهلية على طريقة "وإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنـاى عنك واسع"، فكلاهما ،هنا، ما زال غير قادر على سماع صوت الليل. أو حينما يتحدث عن حركة الموت الصامتة "بأقدام حافية". ومثال على ذلك أيضًا الكلام عن "الحلم" وأن الحياة حلم نعيشه. ثم من الموروث العربي نجد إعادة لأفكار نطرح منها على سبيل المثال لا الحصر:"ما سر الراحة التي يشعر بها الإنسان كلما انتبه إلى أنه غير ذي شأن؟" والإضافة الاستفهامية على كلام المتنبي لا تضيف كثيرًا في قوله:
"ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاء ينعم"
أما حين يقارب موضوع الزواج في أكثر من موقع، يظهر – مثلما نظهر كلنا الشعراء الشباب، متأثرين برأي الشاعر نفسه والماسكين معه على الجرح- كأنه متألم لكونه خارج هذه الدائرة، وأمنيته بدخولها واضحها حتى في أكثر مواقفه سخرية منها لكأنه يتمنى أن ينجب ويتكاثرَ بدلاً من رؤوس البطاطا التي تصلح عنده لدور حياة جديدة.
ثم إن "التأثير والتأثر" ضاقت، برأيي، لصالح "الأثر" في الشعر الحديث وأظنها لم تعد قادرة للاستعمال الشعري منذ " إسحاق نيتون" كما أراد أن يظهر في "السونت 26" وفي ذلك أدلّة أخرى مثل "ركض الغابات وراء نوافذ القطار في الاتجاه المعاكس". وهو وإن كان نيتشويًا من حيث طريقة مقاربة الموضوعات على شكل شذرات، كان نيتشويًا أيضًا في معرض الكلام عن النسيان المتواصل للألم الذي حدث والذي لم يحدث بعد. وفي الهدنة المسماة بـ "الحياة الجميلة".
أما فيما خص لعبة الحروف والتي أراها سمجة في الكثير من الأحيان، أعيد ذلك، ربما، إلى رغبة الشاعر في ضغط نصوصه إلى مستوى كبسولات شعرية، أو ثقوب بيضاء، ضغط فيها –عفوا- أسماء محبوباته إلى حروف، فصارت هدى – ربما- "هاء"، ويمكن القياس على ذلك. وهنا نشعر أن بقع الضوء في المجموعة التي تبدو وكأنها تلمع وترن كطنٍّ من الذهب، يقابلها ما خفّ على ماء المخيلة كطن من الخشب! ربما لأنه أدرك "أن لا شيء أخطر على الشعر من كتابته بلغة شعرية"، في حين كنت أتمنى لو أنه قال "لا شيء أخطر على الشعر من أن تكتبه" وحسب.
وجوديًا أيضًا، يبهرك كيف وظّف الشاعر معارفه في الزمكان والبيولوجيا وعلم النفس في صيغ موفقة آخذة في استثارة العقل والعاطفة معًا، وهو الذي "يعرف الثياب الداخلية لكل زهرة" ويرى فيها "حبة البلوط شجرةً معلبة" لم يتوان أبدا عن التجديف إلى ما بعد ما بعد الشعر، حتى لم يك أصدق وأبلغ منه حين قال"الآلهة المتعددة الوظائف تصلح كطيور الوروار لسماوات هذا العالم"، فهو شاعر المد والجزر في آن معًا، وهو الذي يكرّر المحاولة والذي يخلط الأوراق حتى تلمح اندماجًا حسيًا مع مكنونات العالم وتشعر أن كل "ما" عليها "حي"، الفصول والجمال "والهواء المفروم بالمروحة". يذرف قارئ حسن عبد الله معه دموعًا تملأ كوبًا، ويلتقط مع كل قصيدة هدية من السماء.
إن لعبقرية الشاعر في رأيي سبباً هاماً، هو أنه رغم كونه شاعرًا كبيرًا، إلا أنه في الحقيقة طفلٌ خيّالٌ لم يكبر بعد، وهو إذ يلعب باللغة ويكسر صحون البلاغة ويجرح يده بشوك المعاني ويتحدث عن السماوات والثقوب السوداء والجاذبية وكأنه يمد صوته بغنج جميل، نهٌر لم يتسخ في مدن الإفتعال القذرة.
بنيويّاً، يستوقفكَ أمرٌ لافت، وهو أنّ شاعر الإيقاع خلع عباءاته القديمة المطرّزة بحليّ التفعيلات-اللهم إلا في واحدةٍ قطع فيها الفهدُ جري الغزال- لصالح الأنغام التي تصدرها وتعكسها، كلٌّ بدورها، الطبيعة ونفس الشاعر المتأمّل، الذي وُهبَ الشعرَ من غيرما دليلٍ يشير إلى طريقة الإستعمال، يُقطّرهُ في كركة اللغة، فيحناً يحسبُ القارئُ أنّ هذه الجملة نثريةٌ جداً وأطال الشاعرُ في عمرها، إلا أنّه يشهقُ بعد أن جمع بيدر القش البيلد لعود ثقابٍ خاطفٍ يربك ويفاجئ ويؤلمُ أحياناً ويغير مسار الأحداث. ومثال على هذا النضج العادي الذي يليه تعليق غير عادي ك "الإهتراء" أو كأن (هناك من هو قادمٌ لقطافنا). لكلّ هذا لو أضأت شعاعاً على عيني حسن عبدالله لما ارتدّ إليك بصورة مباشرة، لأن مرآته الذكية تمتلئ وتحتشدُ بالأضواء الأجسام وحتى الظلال، لتفتح الطريق أمام تدفّقٍ سريعٍ وخاطفٍ على طريقة "فاليري" الذي يعتبر أن القصيدة (مسألة ذهنية ملتوية يرفعها الشاعر إلى السقف جزءاً جزءاً لتقعَ على رأس العابر دفعةً واحدة).
حسن عبدالله تجرية شعرية فذة بدأت تأخذ ملامح المدرسة، فهو حرٌّ من آبائه الأسبقين ومن أبنائه الآتين ومن اللغة المعلّبة والإيقاع الخلّبي، بعد ظل الوردة لن نرسل الشعراء بعيداً عن جمهوريتنا لنسلَمَ من دوّامة الهيام لأنه فهم الفارقَ بين الخيال والوهم، ولن نردد مع المتنبّي: "لماذا يراك المجد في زيّ شاعرٍ" ولم يعد الشعر يسلّي الشاعر في وحدته، لأنه وضمن مئة واثنتين وسبعين صفحة كانَ واقعياً وطبيعياً ورومنسياً وانطباعياً وبرناسياً ومستقبلياً وإيماجينياً وتعبيرياً وسريالياً وليس هذا من قبيل التعداد بل من قبيل تعدّد الأفكار والأساليب والموضوعات وفي كل من المدارس المذكورة أعلاه يمكن كتابة دراسة خاصة الأمرُ الذي أرى أنه المدرسة التوحيدية التي نعمل عليها فيزيائيا وينبغى مرافقتها شعرياً بما يتناسب والرؤى الجديدة. لعلّ أجمل الملامح الجلية أيضاً تكمن في أنّ الشاعر حقّق "العدوى" التوليستويّة في كثير من المقطوعات نظراً لكبر الفردية ومدى وضوح الرؤية وصدقه مع نفسه ولهذا نرى الإنتشار السريع لمقاطع معينة في النت وعلى ألسن المهتمين...فهو عاقبنهم بحبّه لهم فجعلهم عشّاقاً له، وحمل معوله واتجه نحو السماء ليطلّ عليهم من مدن الملائكة ساعات غروب الأمل أو شروق الحنين وهو لم يغشّ قط لا في ورق الجد ولا في ورق اللعب وكان هو هو. وإذا ما كان لي بعض الآراء المخالفة مع بعض الأفكار كالفصل بين الجسد والنفس أو الطرق المنفردة التي يسلكها العارفُ نحو الله فإيماني أن الشاعر لن يضيقَ بي ولن يعذبني كما أنّ الله لن يعذّب بنار جهنّم ساذجاً يعاقدُ أنّه غير موجود. حسن عبدالله وأنا أضيء لقلبك شموع الإعجاب على مقطوعة أدعو القارئ لإيجادها صفحة مئة وثمانية وستين تحت عنوان "سونت 19" لأنك فيها كنت أقرب إلى الإنسان والحقيقة حتى من فضاءاتهما...أقولُ لك :
"نحبّك جملةً وتفصيلاً..."
مهدي منصور
مجلة مقاربات
شاعر لبناني، وأستاذ جامعي متخصص بالفيزياء والتربية، من مواليد 29 شباط، يعدُّ من أبرز الوجوه الشعريّة في لبنان والعالم العربي.
ابتدأ مشواره الشعري في برنامج المميزون الذي عرضته المؤسسة اللبنانيّة للإرسال عام 2003 حيث حصد الميداليّة الذّهبيّة عن فئة الشعر المرتَجَل.
صقل منصور موهبته الشعريّة وأفقه الإبداعي عبر دراسته وتدريسه الادب العربيمن جهة ودراسته الفيزياء والرياضيات التطبيقية والتربية حتى نال شهادةالدكتورة في فيزياء الكم.
لعلّ أبرز المحطّات التي كرّست اسم الشاعر مهدي منصور عربيّاً كانت مشاركته في برنامج أمير الشعراء 2008 الذي تنتجه وتبثّه قناة ابوظبي الفضائيّة حيث نال الشاعر جائزة لجنة التحكيم.
في شعر مهدي منصور، تنسجم الاصالة وhلحداثة معاً انسجاماً تامّاً حتى لكأنهما تبدوان قبلتين لثغر واحد، فهو يكتب بلغة عصره ويتعمق في التجارب الشعريّة الحديثة، ولكنّه يحافظ على الإيقاع الموسيقي الساحر الذي يميّز الشعر العربي، الأمر الذي نال استحسان كبار شعراء لبنان فدعموه وقدموا له.
ويتّخذ شعر منصور طابعاً إنسانيّاً شاملاً وبُعداً كونيّاً يترجم أدق الهواجس اللاإنسانية ويطرح الاسئلة التي تضع الإنسان في مواجهة مع ذاته، الامر الذي خوّله الحصول على جائزة ناجي النعمان الثقافيّة عام 2009 وشملت الجائزة طباعة ديوانه الأخير "يوغا في حضرة عشتار" وعلى جوائز وميدالياتٍ وأوسمةٍ عديدة لا يتسع المكان لذكرها.
مثّل منصور وطنه في المحافل الشعرية والمهرجانات الثقافية العربية والعالمية.والجدير ذكره أنّ قصائد الشاعر منصور تُدرّس في بعض كتب الأدب العربي في المناهج اللبنانية والعربيّة كما وترجمت بعض قصائده إلى لغات عدة كان آخرها ترجمة إلى اللغة الألمانية ضمن دراسة "أنطوبولوجيا" أعدّها معهد غوتّه الألماني...
صدر للشاعر:
متى التقينا 2004
انت الذاكرة وأنا 2007
قوس قزح 2007
كي لا يغار الأنبياء 2009
يوغا في حضرة عشتار 2010
أخاف الله والحب والوطن 2016
الأرض حذاء مستعمل 2016
فهرس الانتظار 2018