| مقالات


الكـون يـرقـص "التـانغو"


ثمّة شاعرٌ محترفٌ يقرأ تاريخ امرأة ترقص من سرعة اهتزاز خصرها، هو أيضاً يتنبّأ لمستقبلها ويدرك جيداً ماذا يختلج في وجدانها وبماذا تفكر الآن.

لقد صار حتميّاً اليوم بعد تراكم خبرات الإنسان، أنّ قصة كلّ شيء موجزةٌ في رقص أيّ شيء.

نعم، يكفي أن تراقب تمايل السفينة لكي ترى وجه القمر وهو يبتسم أو يوجم بوجه الأرض، منتجاً المدّ أو الجزر الذين يساهمان في اضطرابات البحر وأمواجه التي تراقص السفينة.

لا يبدو الأمر غريباً على الشعراء لأنه أقرب إلى الخيال، فقد تحسس أمراً مشابهاً الشاعر جوزيف حرب حينما قال: "وقت لمّا بطلّع بالشجر، بعرف من التلويحْ... قديش هـالساعة  بإيد الريح"

ولكنني هنا لا أتحدث عن الواقع الذي بات خيالاً، بل عن الخيال الذي صار واقعاً لا محالةَ. الشعر الذي أصبح خبراً وعلينا تصديقه.

بعد ما يناهز القرن على تنبّؤ أينشتاين بوجود بموجات الجاذبية، استطاع فريق من الباحثين إثبات وجودها بالفعل. لقد افترضَ العالِمُ الأكثر شهرة في القرن الماضي أنّ الكونَ خيْطَ من نسيج الزمان والمكان. وأن هذا النسيج مطاطٌ بما يكفي ليتقعّر ويتتوسّع ويتغيّر، إذ لم يعد للمكان صفةُ الثبات، ولا للزمان ميزة السيلان المتناسق للوقت، وبالتالي فإن الأمكنة والأزمنة قابلة للتقلص أو للتمدد بحسب سرعة الأجسام  وأوزانها على حدٍّ سواء. إنطلاقاً من هذا الإفتراض، يمكننا القول إن مكونات الكون من كواكب ونجومٍ ومجراتٍ وأجرام وغير ذلك، كلّها مراكبُ تطفو على بحرٍ من نسيج الزمكان، وأنّ كلّ من عليها يتلقّى إشارات البحر ولكن لا يسمعها إلا الراسخون في العلم. وقد يكون منطقياً اعتبار كوكب الأرض كرةً تهتزّ على سطح بحر كونيّ لا تني أمواجه بل تتدفق بلا انقطاع، فتبقى الكرة على قيد الرقص.

قد لا نشعر أننا جميعاً نرقص أيضاً، ولكننا نفعل بدون شك. وتغاضينا عن هذه الحقيقة هو دفنّ لقلوبنا في تراب أعمى، بل صمّ لآذاننا عن الاستماع إلى لثغات الكون الأولى منذ أن كان طريّاً، وتنكرنا للغة البحر التي لا يفك أبجديتها إلا الصيادون الذين ما رموا شبكةً في ماءٍ إلا ورموا مثلها في الهواء، وما عادوا إلا وفي سلالهم قوت وياقوت. شعراء العالَم وعلماؤه هم صيادو سمك الحقيقة، الذين طالما رموا شبكاً في ماء الغيب، وما خذلوا البحر..

تعالوا نرقص إذن، تعالوا نخبرْ أحداً ما في مكانٍ ما بعيد، أننا موجودون وأنّا نحبّ الحياة، وأنّ لنا أجنحةً، قد لا تحملنا إلى أمكنةٍ عذراء، إنما تصل تموّجاتها بلا ريب، حاملةً كل خصالنا اللحظية إلى غيرما جهة من الكون.

يأتي بعد كل هذا من يقول إن الرقص عيبٌ، وأنّ الموسيقى رجسٌ من عمل الشيطان.

 

الرقص نافذة نكورها على جدران سجن ذواتنا، رئةُ التنفّس والتمنيات في رغباتنا الصماء سرجُ خيالنا لشريكنا الممنوع نحضرهُ ونسمع صوته متأوهاً بين الشراشف والظنون الساهرةْ...

الرقص تعبير عموديٌ لأجسادٍ تعرّش في حناياها شتاتل رغبةٍ أفقيهٍ لكنها لمّا تزل مقموعةً في الباطن المجهول من أحلامنا المتناثرة...

الرقصُ يحسوني كزنبقةٍ، وأحسوهُ ككأسٍ من مزيج الجنس والإراء والجسد المعدّ لكي يصير قصيدة أو موقداً ليباس أحطاب اشتهاتي الشاعري بأسوأ الأحوال، يربكني على وهج الأسرةِ والأسرةُ آسرة...

الرقص نعرفه صلاة الأقدمين،  نذور من خافوا الإله، مراسم التمجيد للفرعون، تعبيراً يحاكي بين تلك الحيّة الخرساء في خلد النساء وحية الموت الطليقة في الجبال الغابرةْ...

الرقص نذلٌ يقلب الميزان، إذ يعطي الأنوثة هالةً تغوي الرجال. تحيلهم غرباء عن أسرار قوّتهم، وتتركهم كأطفالٍ بلا مأوى، تسلّمهم أماناتٍ مؤجلةً لـ"سالومي"، التي بالكاد ترجعهمْ وقوداً نابضاً للذكرياتُ العابرةْ...



الشاعر مهدي منصور

شاعر لبناني، وأستاذ جامعي متخصص بالفيزياء والتربية، من مواليد 29 شباط، يعدُّ من أبرز الوجوه الشعريّة في لبنان والعالم العربي.

ابتدأ مشواره الشعري في برنامج المميزون الذي عرضته المؤسسة اللبنانيّة للإرسال عام 2003 حيث حصد الميداليّة الذّهبيّة عن فئة الشعر المرتَجَل.

صقل منصور موهبته الشعريّة وأفقه الإبداعي عبر دراسته وتدريسه الادب العربيمن جهة ودراسته الفيزياء والرياضيات التطبيقية والتربية حتى نال شهادةالدكتورة في فيزياء الكم.

لعلّ أبرز المحطّات التي كرّست اسم الشاعر مهدي منصور عربيّاً كانت مشاركته في برنامج أمير الشعراء 2008 الذي تنتجه وتبثّه قناة ابوظبي الفضائيّة حيث نال الشاعر جائزة لجنة التحكيم.

 في شعر مهدي منصور، تنسجم الاصالة وhلحداثة معاً انسجاماً تامّاً حتى لكأنهما تبدوان قبلتين لثغر واحد، فهو يكتب بلغة عصره ويتعمق في التجارب الشعريّة الحديثة، ولكنّه يحافظ على الإيقاع الموسيقي الساحر الذي يميّز الشعر العربي، الأمر الذي نال استحسان كبار شعراء لبنان فدعموه وقدموا له.

 ويتّخذ شعر منصور طابعاً إنسانيّاً شاملاً وبُعداً كونيّاً يترجم أدق الهواجس اللاإنسانية ويطرح الاسئلة التي تضع الإنسان في مواجهة مع ذاته، الامر الذي خوّله الحصول على جائزة ناجي النعمان الثقافيّة عام 2009 وشملت الجائزة طباعة ديوانه الأخير "يوغا في حضرة عشتار" وعلى جوائز وميدالياتٍ وأوسمةٍ عديدة لا يتسع المكان لذكرها.

مثّل منصور وطنه في المحافل الشعرية والمهرجانات الثقافية العربية والعالمية.والجدير ذكره أنّ قصائد الشاعر منصور تُدرّس في بعض كتب الأدب العربي في المناهج اللبنانية والعربيّة كما وترجمت بعض قصائده إلى لغات عدة كان آخرها ترجمة إلى اللغة الألمانية ضمن دراسة "أنطوبولوجيا" أعدّها معهد غوتّه الألماني...

صدر للشاعر:

متى التقينا 2004

انت الذاكرة وأنا 2007

قوس قزح 2007

كي لا يغار الأنبياء 2009

يوغا في حضرة عشتار   2010

أخاف الله والحب والوطن 2016

الأرض حذاء مستعمل 2016

فهرس الانتظار 2018