
مقابلة مع مجلة شاعر المليون
العزيزة رغده محمد الشحي
تحية طيبة
إليك المقابلة، متمنياً ان تقع من إعجابك وإعجاب الأصدقاء في أكاديمية الشعر بمكان..
ـــــــــــــــــ
* تقول في قصيدة: "رسل البيادر": (والأرضُ أمُّ القمحِ يولدُ عندنا
وحياً..وينطقُ في الترابِ صبيّا). هذا البيت متدفق بالخصوبة والتوظيف
الإنزياحي للمسطور القرآني الكريم. قصيدة الشطرين عريقة تاريخا،
واحدة شكلا، كيف يحقق الشاعر فردانيته فيها؟
- ينبغي أن نعترف بداية أن الكتابة اقترافٌ عسير، ومحاولة اختراق ما تكدّس من فضاءات التجارب المتنوعة. فدرب الجلجلة لا يكّرس سالكيهِ إلا حين يفضي بهم إلى ذواتهم. والوصول إلى الذات الشعرية الشفيفة يعني إكمال دوراتٍ كاملةً حول شمس الموروث من النتاج الشعري، فالتجربة برأيي تقولب القالب وتطبعه بطابعها، وليس العكس، بمعنى أن القالب الشعري الكلاسيكي على عراقته ونمذجته قابلٌ للتطوير من داخل التجربة نفسها وعمق شاعرية الشاعر في مد أفق تجربة حداثية، أو ربما ما بعد حداثية في قالب كلاسيكي/نيو كلاسيكي يحملُ طابع الشطرين. والاستفادة من الموروث على اختلاف مستوياته تجربة لست اول من ارتادها، إذ إن السياب مثلاً كان من أوائل المستفيدين من منجز السابقين وتراثهم في رؤية البعث والنشور (تموز، سيزيف وغير ذلك). ونحن، الشعراء المنتمون إلى فضاء ما بعد الحداثة، العصر الذي أدخل فيه أدونيس مصطلحات كيميائية وعلمية إلى بنية النص الشعري لكي تجاري روح العصر، وعليه، ينبغي ألا تكون كتاباتنا مجاراة شعرية لقصائد الآخرين بقدر ما هي تعبير عن قلق الإنسان المعاصر ومشكلاته ضمن فضاء القالب التقليدي أو قالب التفعيلة أو حتى قصيدة النثر.
* يقول الشاعر الألماني هولدرلين" أنا ابن الأرض خُلقتُ لأحبّ وأتألم"، ماذا يقول مهدي منصور؟
- لا نختلف كثيراً في أننا أبناء الأرض بل وأضيف أننا خلقنا لنفتدي أمنا...الأرضُ بالنسبة إليّ وحدة الوجود، بمعنى أننا والأرض شيء واحدٌ، نخرج منها كزنبقة ونتحلل فيها كأثر..الأرض الخصوبة، الأنثى، ومؤئل الحنين الأبدي لما سيأتي وليس الحنين إلى ما سبق، ومن هنا أجد نفسي راحلاً نحو الموت الهلامي في بعض القصائد لإيماني أن الموت هو وسيلة مصالحة والتحام مع جدتنا الكروية، ومن ثم مع المنظومة الكونية التي لا حياة لشعر لا يغني لها ويتماهى مع سمفونيتها الشاسعة. وعلى غرار عشتار الأسطورة التي مارست اليوغا في حضرتها في ديواني الأخير أعلن أن الأرض أنثى كلما اشتهت السماء، والغريبة التي ما تركت للشعر الكلام إلا وكان مقصده:
"...وأنا صدىً متجعّدٌ في الريحِ//رسمٌ ساحليٌّ في مخيّلة البحارِ//وشاعرٌ قدّتهً كفُّ الحزنِ من أرض القصيدة//لا ملاذ له سوى حضن الغريبة//وهو يرشوَها بوعدٍ خلّبيٍّ//كلما التفتَ الضياءُ إليه..أخلفَ ما وعدْ..."
* قيل تعليقا على الفضاء العام لقصائدك إنك تمتح بعض عصارات
شعرك من سحب جبران خليل جبران؟ ما تعليقك؟ وما الذي بقي من
عبقرية جبران في فضاء الثقافة العربية؟
- بوسع جبران أن يترك فينا أثراً، ولكن إلى حين. كلنا يستفيد من روافد عديدة، إنما وبصراحةٍ متناهية أقول أنني متحت من جبران أقل من سواه بكثير. جبران فاتحة نحو لغة جديدة وليس بوسع التمهيد أن يشكل متن النص الإبداعي. من هنا أستطيع القول أن العبقرية المذكورة، صنعها الجميع إلا جبران الذي مثل حالةً تعرضت للكثير من سهام النقد.
على المقلب الآخر، فإن أهم نتاج لجبران كان يمتاز بمفارقة عجيبة ألا وهي أن كتابه الذي طارت شهرته (النبي) والذي كتب بالإنكليزية _ عرّبه ميخائيل نعيمة_ متح جملةً وتفصيلاً من زرادشت نيتشه ومن الإنجيل المقدس. خلاصة أقول أني متحت من الروافد التي شكلت النص الجبراني نفسه.
* من كُتّاب الشعر من يعيدون صياغة "جمال النُّسج اللغوية المسبوقة" ولا ينتبهون إلى أن دورهم الحقيقي ليس إعادة إنتاج المُنتج بل اقتراح منتج لغوي جمالي جديد. إلى ما تعزو غياب انتباههم؟
- الشعر ليس العبث بالكلمات، ولا إبراز عضلات لغوية أو القدرة على التلاعب بالأوزان واستحضار قوافٍ بالغة التعقيد، الشعر في مكان آخر، محضُ رؤيا، إشراقٌ نورانيٌّ وانبلاجٌ صوريٌّ. يستحضرني هنا قول أحدهم: "إنني منهمكٌ الآن في كتابة عشر قصائد لمناسبات متتالية"، ودواويين عصر النهضة حافلة بالمراثي والتطويبات...
أعزو غياب انتباه الشعراء إلى دورهم الحقيقي إلى الانهماك وليس الانهمام كما يقول "هيدغر"، فالانهماك هو الغوص في تفاصيل لا جدوى ولا طائل منها، بينما الانهمام هو الغوص في أعماق الوجود والنفس البشرية والعودة لسؤال عن أجوبة قائمة إذ إن مهمة الشعر هي طرح الأسئلة وليس إعطاء الإجابات...
* نعم، النصوص تتغذى من بعضها بعضا، ولا يوجد نص شعري خالص في نقائه العرقي. من أي نصوص تغذت نصوصك؟
- التناص ،بلا شك، مفهوم قائم ومستحق، لكن كيف لي أن أحدد هوية قصائدي وقد شابني ما شابني من روافد الشعر العربي على على اختلاف حقباته ومدارسه والشعر الفرنسي والألماني المترجمين والإنكليزي والروايات العربية العالمية والنظريات الفيزيائية. ولكن إذا كان ولا بد، فسعيد عقل سألني منذ عشر سنوات: هل بدأت بتمزيق القصائد؟" ولم أفهم السؤال يومها، ولكن بعد أكثر من أربع سنوات فهمت أنني لم أكن الشاعرَ بقدر ما كنت شاعراً، تلبّسني الأخطل الصغير والشعراء الرواد لفترة وتلبسني محمود درويش ونزار قباني–وربما ما زالا- وصولاً إلى كوكبة شعراء الجنوب وشعراء عرب معاصرين. الشعرُ الحق هو الشعر الذي كلما رفعتهُ قافيةُ غريبة ترفّع وازداد ارتفاعاً.
* يقول نزار مسترجعا حضور دمشق في قلبه وذاكرته" فلا قميصٌ من
القمصان ألبسه إلا وجدتُ على خيطانه عنبا". فما الذي علق من أبوظبي في قمصانك؟
- لم تذكر "أبو ظبي" إلا وقبّلني "أينشتاين" مرتين، مرةً لأنني برهنت السفر في الزمكان من حيث أنا إلى شوارعها ومنزلها وأهلها وبيوتات الشعر فيها، ومرّة لأنني أكدت أن الله لا يلعب بالنرد...فلولا "أبو ظبي" هذه المدينة التي تحولت منارة الثقافة والشعر في العالم العربي لما أتيحت إليّ فرصتا التعارف والمعرفة الحقّة، إذ لم يعد منزلي بيروت ولا صداقاتي محليّة. أبو ظبي الجميلة والأصيلة والعريقة أمٌّ ثانية وأغنية دوزنت رسل بيادري وواءمت بين دجلتي وفراقي.. لم يبق على قمصاني منها شيئاً...لأنني وبكل محبة وشفافية تركت قمصاني وعنبي لديها...لأمشي تحت غيم ذكرياتها عارياً تماماً إلا من شغف يشدني إلى شموخ نخيلها أو نخيل شموخها الأبدي. وأنا الذي قلت لها مرة:
لم يحضرِ الغربا فلا تتحجبي آتٍ معي مجد الإباء اليعربي
جئنا وفي عسل الشفاه رسالة: بيروتُ تهديك السلام "أبو ظبي"
ولا أكسر النشيد لو قلت: إن الناس في أبو ظبي اثنان إما شاعر وإما من تحاذر أن تخطئ شعراً أمامه. قيل إن واضعي قواعد النحو والصرف –الذين لم يكن معظمهم عرباً- ذهبوا إلى الصحراء وأخذوا اللغة من صدور الناس حيث لم يتلوّث لسانهم بتغييرات اللغة، لكي يقعّدوا اللغة على أساس مصادرها النقية..وأنا أقول هنا أن تراثنا وثقافتنا تلوثا بحضارة عمياء، لو شاء (سيبويه حضارة) منا العودة إلى غيم الأصالة والأخلاق الأشف عليه بلا شك أن يرخيَ في "أبو ظبي" رحال المعرفة.
* هل يمكن أن تشرك القراء في يومياتك وتسرد لهم أبرز محطاتك في
نهاية الأسبوع الماضي؟
- أعتقد ان وظيفة القراء أن يكابدوا قصائدي لا أن يعانوا معاناتي وعبثيتي وقلقي، ولكن السؤال جريءٌ وجديد ولا ضير في خوضه...
الزمان: الإثنين 5-2-2012 بينما كنت أحضرُ أمسية شعرية في قصر الأونيسكو للشاعرة المغربية وفاء العمراني، دعانا رئيس الحركة الثقافية في لبنان الشاعر بلال شرارة إلى عشاء على شرف الشاعرة حضره إلى جانبها الشاعر شوقي بزيع والفنانة خيرات الزين والإعلامية نوال الحوار وشعراء شباب لبنانيين وكان أن أخذت بركة الحضور على نص أعتبره جديداً من حيث البنية والمضمون وكنت متردداً في نشره أو عرضه على الآخرين ولم تكتمل فرحتي في تلك الليلة إلا باتصال خاص من الفنان الكبير نور الشريف الذي هنّأني على مقابلتي مع الإعلامية نوال الحوار على قناة الـANBوكان ذلك شحنة قوية على ممارسة الحياة بنكهة جنون جديدة، أو ربما كان بمثابة ضوضاء تخرجني تدريجياً من علاقة عاطفية غريبة دامت سبعة أيام مع امرأة تدمن الثورة والإعلام وكتبت نصاً كلّل هذا الخروج القلق من بين براثنها تحت عنوان "اليوم السابع". تبع ذلك –خلال الأسبوع الماضي- لقاء شعري نهاري في كلية الإعلام، الكلية التي حلمت بدخولها طالباً فشاء الشعر لي ألا أدخلها إلا على متن قصيدة.
*عادة يغربل الشعراء أرقام الهاتف والعناوين الإلكترونية التي يحصلون عليها في المناسبات. ما الذي بقي منها من "أمير الشعراء"؟
بصراحة متناهية كلما حاولت غربلة الأرقام علقت كلها في غربال الرؤى، ليس من باب الهروب من السؤال إلى الدبلوماسية بل لأن "أبو ظبي" لم تكن مناسبة بقدر ما كانت حدثاً، ومن التقيت بهم وإن لم أتواصل مع بعضهم لفواصل مكانية بحتة، ما زالوا نابضين بكل ما أوتيت من صدق الصداقة. هنا أخص بالذكر الأصدقاء الذين لم يتخلفوا مرة عن التواجد جانبي أو دعوتي إلى منابرهم الشعرية أو تلبية دعواتي مثل سيدي محمد ولد بمبا، عبدالله العريمي، محمد ابراهيم يعقوب، أحمد أبو سليم، صلاح بو لاوي، عقيل اللواتي، قحطان بيرقدار، جاكيتي الشيخ سك، أحمد بخيت، روضة الحاج، أحمو الحسن الأحمدي، خالد الوغلاني، رابح الظريف ومهند ساري. ولا بد أن أقول أن الذين تعرفت عليهم على هامش المسابقة كانوا ومازالوا حاضرين تماماً كشعراء المسابقة مثل معدّ البرنامج الشاعر الصديق إياد المريسي ومقدم الموسم الفنان إياد نصّار وعضو اللجنة يومها الأستاذ نايف الرشدان وبعض الأصدقاء من أكاديمية الشعر وصالونات "أبو ظبي الثقافية" وهذه المقابلة، في ختامها، هي مصداق شفيف على ما أقول...
شاعر لبناني، وأستاذ جامعي متخصص بالفيزياء والتربية، من مواليد 29 شباط، يعدُّ من أبرز الوجوه الشعريّة في لبنان والعالم العربي.
ابتدأ مشواره الشعري في برنامج المميزون الذي عرضته المؤسسة اللبنانيّة للإرسال عام 2003 حيث حصد الميداليّة الذّهبيّة عن فئة الشعر المرتَجَل.
صقل منصور موهبته الشعريّة وأفقه الإبداعي عبر دراسته وتدريسه الادب العربيمن جهة ودراسته الفيزياء والرياضيات التطبيقية والتربية حتى نال شهادةالدكتورة في فيزياء الكم.
لعلّ أبرز المحطّات التي كرّست اسم الشاعر مهدي منصور عربيّاً كانت مشاركته في برنامج أمير الشعراء 2008 الذي تنتجه وتبثّه قناة ابوظبي الفضائيّة حيث نال الشاعر جائزة لجنة التحكيم.
في شعر مهدي منصور، تنسجم الاصالة وhلحداثة معاً انسجاماً تامّاً حتى لكأنهما تبدوان قبلتين لثغر واحد، فهو يكتب بلغة عصره ويتعمق في التجارب الشعريّة الحديثة، ولكنّه يحافظ على الإيقاع الموسيقي الساحر الذي يميّز الشعر العربي، الأمر الذي نال استحسان كبار شعراء لبنان فدعموه وقدموا له.
ويتّخذ شعر منصور طابعاً إنسانيّاً شاملاً وبُعداً كونيّاً يترجم أدق الهواجس اللاإنسانية ويطرح الاسئلة التي تضع الإنسان في مواجهة مع ذاته، الامر الذي خوّله الحصول على جائزة ناجي النعمان الثقافيّة عام 2009 وشملت الجائزة طباعة ديوانه الأخير "يوغا في حضرة عشتار" وعلى جوائز وميدالياتٍ وأوسمةٍ عديدة لا يتسع المكان لذكرها.
مثّل منصور وطنه في المحافل الشعرية والمهرجانات الثقافية العربية والعالمية.والجدير ذكره أنّ قصائد الشاعر منصور تُدرّس في بعض كتب الأدب العربي في المناهج اللبنانية والعربيّة كما وترجمت بعض قصائده إلى لغات عدة كان آخرها ترجمة إلى اللغة الألمانية ضمن دراسة "أنطوبولوجيا" أعدّها معهد غوتّه الألماني...
صدر للشاعر:
متى التقينا 2004
انت الذاكرة وأنا 2007
قوس قزح 2007
كي لا يغار الأنبياء 2009
يوغا في حضرة عشتار 2010
أخاف الله والحب والوطن 2016
الأرض حذاء مستعمل 2016
فهرس الانتظار 2018