اليوم في دمشق كسنةٍ في سواها.
في دمشق لا نشتاق إلى امرأة أو مدينة. لا نكتب القصائد ، ببساطة لأنه لا يمكننا أن نرتكب المعاصي في الجنة. الجنة التي ما زالت على سحرها وهي محاطة بجهنم، والحياة التي تتدفق كأنهارها السبعة لم تتوقف رغم الجراح في شجر الضفاف.
القصائد لا تعلق على الأستار ولكنها تنقش على الجدران، والتاريخ الذي كان صعباً عليه أن يمشي في الحارات من شدة ازدحامها بالناس وجدَ أخيراً مكاناً آمناً له في حجارتها.
تقول الأسطورة أن البرق المرسل إلى الدمشقيين من الإله «حُدد» كان يضرب "قاسيون" فيترك في ترابه تترات حديدية، يصنع منها السيوفيون السيف الخالد بطعناته النافذة، وسره الأبدي ثم تنقش عليه كلمات مناجاة "للإله" تقول: «حُدد لم يخسر حربه كل من حمل سيفه». البرق يخرج من "قاسيون" هذه المرّة من عيون الحالمين المؤمنين أن المدينة ذات السيف لم تغبِ ولن... وما زالت قلوب الدمشقيين تصعد إلى الجبل كالشعب في رواية "ناراياما" لـ "فوكازاوا"
الطريق إلى الشام مزروعة بشجر الحكايات التي لا تنتهي. عند كل محطة في المسافة الهيّنة روايات شاقّة تبدأ بتغييرك، تعيد ترتيبك إلى أن تصل إليها شخصاً آخر، شخصاً مؤهلاً للانخراط فيها فلا تشعر بغربة أو قلق.
لتعرف نفسك عليك إمّا أن تسلك طريقاً إلى داخلك أو أن تسلك الطريق إلى دمشق.
كان حلماً أن نضع الرحال في أحد بيوت الشام القديمة الذي أصبح فيما بعد فندقاً للباشاوات ويشغله الأن سوّاح من كافة أنحاء الدنيا، دلالة على أنّ الباشاوات سوّاح أيضاً في حياة دمشق ، سوّاحٌ متسلطون إنما على أنفسهم ليرحلوا وتبقى ذات الجلال بهية منذ ولدت كأقدم عاصمة في التاريخ. الفندق الذي أتاح لنا أن نحلم في المخادع الدمشقية بدل أن نحلم بها.
على مقربة منّا كان مسموعاً بوضوح صوت القذائف على جوبر ومنها، وهي تبعد أقل من كيلومتر واحد. طيلة فترة إقامتنا لم يتوقف القصف، والناس في الساحات والحارات لم يتوقفوا أيضاً. لقد أصبح الموت بالنسبة لهؤلاء شيئاً عادياً. كدليلٍ على ذلك، في المساء، كانت "دار الأوبرا" على موعد مع الفنانة "فايا يونان" وجمهورها الكبير، كانت فايا ككل زيتون حلب ترشح زيتاً بصوتها الأصيل وثوبها الأخضر.. على يميني كان الفنان "دريد لحام" يصفّق بيدٍ واحدة، شفى الله يساره ، وحشدٌ من المدعوين الذين جاؤوا ليثبتوا أنّ الموت لا يدخل دمشق ولو متخفياً. كان أمامنا جمهور مؤمن بالقصيدة والفن الراقي يتفاعل باتزان عالٍ ويعرف متى يصفّق بشكل لا يخدش قداسة الفن. أن أقول أمامنا الجمهور، يعني أن مقاعد الضيوف والشخصيات دائماً في الخلف، يتقدمها الطيبون. ولا عجب في ذلك إذ لا بد أن تقود كل هؤلاء الجماهير كما يليق بتواضع المجتمع الدمشقي المشرّف.
أسهل شيء قد تفعله في دمشق هو أن تقع في الحب. سحر الشام منسحبٌ بالفطرة على النساء الشاميات. من أين لهنّ هذا السحر يا ألله؟ العربية على ألسنهنّ عزف، والكياسة في تعاملهن فنّ، والثقافة فعل حياة. في أعينهن، على الرغم من الوجع، أسرار مسروقة من الجنة. غسل بردى أقدامهنّ ذات صبيحة فأنى دسن ياسمين وأنى جلسن عائلة.
المواعيد في دمشق لا يمكن أن تنتهي بساعة، فلكلٍّ هناك حكاية، ثمّة ممن التقيتهم، وهو شاب تطوّع في الهلال الأحمر، وقع بيد داعش بسبب ماركة حذائه ونجا من القصاص بأعجوبة. ومنهم شاعرٌ فقد بيته وفي بيته أخوه الذي قرأ فيه المستقبل ومكتبته التي قرأ فيها الماضي. يخبرني صديقي الذي جاء من حمص لأنه يرى في قصيدة لي وجه أبيه، أبوه الذي لا يعرف عنه شيئاً، أنّ حمص أكثر مدن سوريا أماناً الآن. عن الخراب فيها يقول: كان هناك ما يُسمّى بمشروع "حلم حمص" الذي يقضي بهدم الكثير من المباني القديمة وإعادة إعمارها عبر شركات خارجية، يقسم أن الدمار هناك طال المباني المفترض سقوطها فقط في المشروع أصلاً قبل الحرب، لا أكثر ولا أقل وكأن المعركة معركة مهندسين في مسرحية غامضة. عن صديقٍ من "دير الزور" يقول إن أكبر مجزرة في التاريخ الحديث تنفذها داعش هناك جرّاء الحصار الأعمى الذي لو استمر سيودي بمئات الآلاف خلال عام. يقولون كل ذلك ثم يشربون نخباً ويبتسمون. هم هربوا من البيت إلى الخيام ومن الخيام إلى الشوارع ومن الشوارع إلى الإبتسامة.
على مقربة من "باب شرقي" ثمة مكان اسمه "القصيدة الدمشقية". حين ذهبت إلى أمسيتي التكريمية هناك إلى أسرة "يامال الشام" و"اتحاد الكتاب العرب"، وجدت القصائد تنتظر على أكتاف الدمشقيين الرائعين. اللوحات على الجدران القديمة وكتب الشعر في الزوايا والناس لا يفعلون شيئاً سوى الحب. لقد اكتشفت أن الشعر مهما قيل وأينما ألقيَ لا يولد إلا في مكان كهذا. نعم، تظل قصائدنا قديمة إلى أن تُقرأ في الشام.
تأخذنا سيارة الأجرة إلى نهاية المقال، إذ تقلّنا إلى بيروت، مروراً بمئات المنتظرين مصيرهم على الحدود اللبنانية من غير أفق. تعود بي إلى دمشق الذكريات كلما اقربت السيارة من بيروت. لقد انقسمت كجوزة لليلة كاملة. وأنا أردد مع فيروز التي لم يتوقف صوتها لحظة رغم الحرب في مقهى "عالبال" في "الأيمرية" وهي تقول:
قل للذين بأرض الشام قد نزلوا // قتيلكم بالهوى مازال مقتولا
يا شام. يا شامة الدنيا ، ووردتها //يا من بحسنك أوجعت الأزاميلا
وددت لو زرعوني فيك مئذنة // أو علقوني على الأبواب قنديلا
أشد ما أذكره من تلك الرحلة لحظة وصولنا إلىباب "باب توما" حيث كان رجل الأمن يفحص محتويات حقيبتي بجهاز استشعار. استدار الهوائي اللاقط جهة الحقيبة فبادرني بالسؤال: "ألديك عطر في الحقيبة؟ ".
لم أفهم، إلى الآن، فيزيائياً، كيف لم يتجه الجهاز ناحية سوق الحميدية، وإلى الأبد...
مهدي منصور
شاعر لبناني، وأستاذ جامعي متخصص بالفيزياء والتربية، من مواليد 29 شباط، يعدُّ من أبرز الوجوه الشعريّة في لبنان والعالم العربي.
ابتدأ مشواره الشعري في برنامج المميزون الذي عرضته المؤسسة اللبنانيّة للإرسال عام 2003 حيث حصد الميداليّة الذّهبيّة عن فئة الشعر المرتَجَل.
صقل منصور موهبته الشعريّة وأفقه الإبداعي عبر دراسته وتدريسه الادب العربيمن جهة ودراسته الفيزياء والرياضيات التطبيقية والتربية حتى نال شهادةالدكتورة في فيزياء الكم.
لعلّ أبرز المحطّات التي كرّست اسم الشاعر مهدي منصور عربيّاً كانت مشاركته في برنامج أمير الشعراء 2008 الذي تنتجه وتبثّه قناة ابوظبي الفضائيّة حيث نال الشاعر جائزة لجنة التحكيم.
في شعر مهدي منصور، تنسجم الاصالة وhلحداثة معاً انسجاماً تامّاً حتى لكأنهما تبدوان قبلتين لثغر واحد، فهو يكتب بلغة عصره ويتعمق في التجارب الشعريّة الحديثة، ولكنّه يحافظ على الإيقاع الموسيقي الساحر الذي يميّز الشعر العربي، الأمر الذي نال استحسان كبار شعراء لبنان فدعموه وقدموا له.
ويتّخذ شعر منصور طابعاً إنسانيّاً شاملاً وبُعداً كونيّاً يترجم أدق الهواجس اللاإنسانية ويطرح الاسئلة التي تضع الإنسان في مواجهة مع ذاته، الامر الذي خوّله الحصول على جائزة ناجي النعمان الثقافيّة عام 2009 وشملت الجائزة طباعة ديوانه الأخير "يوغا في حضرة عشتار" وعلى جوائز وميدالياتٍ وأوسمةٍ عديدة لا يتسع المكان لذكرها.
مثّل منصور وطنه في المحافل الشعرية والمهرجانات الثقافية العربية والعالمية.والجدير ذكره أنّ قصائد الشاعر منصور تُدرّس في بعض كتب الأدب العربي في المناهج اللبنانية والعربيّة كما وترجمت بعض قصائده إلى لغات عدة كان آخرها ترجمة إلى اللغة الألمانية ضمن دراسة "أنطوبولوجيا" أعدّها معهد غوتّه الألماني...
صدر للشاعر:
متى التقينا 2004
انت الذاكرة وأنا 2007
قوس قزح 2007
كي لا يغار الأنبياء 2009
يوغا في حضرة عشتار 2010
أخاف الله والحب والوطن 2016
الأرض حذاء مستعمل 2016
فهرس الانتظار 2018