لقائي مع السياسة الكويتية
ما أعطاني إياه برنامج “أمير الشعراء” لم يستطع منبر عربي آخر أن يقدم نصفه لي
بيروت – سجا العبدلي:
لقد شردتنا المدائن يا غجريةُ, أصعب من بعدنا عن تراب طفولتنا, أن تنكرت الأرضُ للشهداءْ, فلماذا تخافين من وجعي إن رحلتِ, وماذا تبقى من الصدر كي أتفادى خناجر أهلي, وهل ثم في العمر متسعٌ للبكاءْ, اقتلي, إن قلبي العضال يبعثرني كالقمامة بين شوراع حاراتنا, وشوارع حارتنا المشرئبة كالخوفِ, تزرعني في المسافات, نذرُ الحمامات قلبي, وقافية في قصيدةِ هذي النهايات, آخر موتٍ يدق على شكل رمانة, ووصية حزنٍ مهربة من ضلوعي إلى كربلاءْ, “الظل فجرٌ داكن”.
هي انطلاقة شعرية جديدة للشاعر اللبناني الشاب مهدي منصور الذي يرى أن “الشعر لم يعد قادراً على إسعاد العالم, وأن الشعراء تكاسلوا عن جعل العالم مكاناً أفضل وأكثر حياةً”. مهدي منصور من أبرز الأسماء الشعرية في لبنان صدر له: “متى التقينا, انت الذاكرة وأنا, قوس قزح, كي لا يغار الأنبياء, يوغا في حضرة عشتار”, واخيرا صدر له عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ديوان “الفجر ظل داكن” معه كان هذا الحوار.
ما سر العلاقة الوثيقة بينك وبين الشعر؟
ليس في الشعر ما هو نهائي, أعتقد أن هذه الكتلة اللازمنية, الشعر, هي آلتي الفضلى لأعيش الحياة ببطء شديد, لأقنع عقرب الزمن السريع الأعمى المشرع على النسيان أن يدور بأقل سرعة ممكنة. فأنا أحيا الشعر وأؤدي كل شيء على نحو شعري ولا أفقده حتى في عمق فيزيائيتي اليومية, هو الذي يبدأ حيث ينتهي العلم, وهو الذي يعود هيولياً حين تشرق الأرض بنور ربها. أحيا الشعر نعم, وأخشى ما أخشاه أن يكون الشيء الوحيد الذي لا أؤديه على نحو شعري هو كتابة الشعر نفسها. لأنني وبكل بساطة, مستسلمٌ تماماً, للشعر, لهذا القطار الأعمى الشبيه بالكرة الأرضية السريعة الدوران التي لا تتوقف نزولاً عند رغبة أحد, وإطلاق هذه الخشية من أن يكون الشعر في مكان آخر, ليس تراجعاً بقدر ما هو دعوة للتبصر, لئلا يراهن شاعر بعد مئة عام من اليوم على الخسارة مرةً أخرى, أقول ذلك وأنا أعرف أن الاقتناع بالوصول إلى شكل نهائي للشعر عجز ورضوخ, وليس ثمة تحديد واضح لمصطلح (الزمن الابداعي), فهو, سبحانه, أعطى الأشياء أسماءها ومعانيها وبنى بالتالي بيت العالم, وهو, حتى اللحظة, على حد قول هيدغر قادرٌ على تبديل مصير الإنسان على هذا الكوكب, حتى إذا ما أنكرت التجربة ما تبقى من أمل في الشعر, سأحرق كل الأوراق وما فيها من سنوات وأوصي بما أملك, ولا أملك إلا قليلاً, لأفضل صديق لي, ذلك الذي يجهز علي بطلق ناري, ولا يمضي إلى غير ما جهةٍ في الندم.
قصائدك تُدرس في بعض كتب الأدب العربي في المناهج اللبنانية والعربية, هل تشعر بحجم المسؤولية التي يحملك إياها هذا الأمر؟
لطالما كانت لدي علاقة مميزة مع الكتاب المدرسي. منذ سنوات الدراسة الأولى وأنا أتخلص مع نهاية كل عام من الكتب كلها ما عدا كتاب اللغة العربية. لدرجة أنني كنت أكتب أحياناً على دفتر مستقل أبياتاً مميزة وأقوالاً جديرة بالاهتمام. إلا أن هذا الحب تحول إلى تنافرٍ بعد فترة ليست ببعيدة, فمع بداية دراستي الثانوية بدأت أكتشف استسهالاً في تدريس جيلنا للغة العربية وأن هناك فارقاً بين ما كان يُعطى في المنهجية القديمة وما يطبق في صفوفنا آنذاك. الحقيقة أن سبب التنافر أبعد من ذلك بكثير, فالكتاب كان يعلمنا العروض بشكل سطحي وغير دقيق أحياناً, وقد كتبت قصائد في مرحلة المدرسة مبنية على تفعيلات لم تكن دقيقة بما يكفي, والحق يُقال إن الشاعر والممثل اللبناني “ويليم حسواني” لفت انتباهي إلى الأخطاء الشائعة, ما اضطرني إلى إحراق عدد كبير من النصوص غير الناضجة لخلل دامغ في إيقاعها آنذاك. من هنا أذهب إلى القول, أنه وفي اللحظة التي أتيحت لي الفرصة لدخول مناهج التعليم, تحملت عبء ذلك كي لا يقع جيل قادمٌ في هفواتٍ شبيهة للتي أخرتني قليلاً, ثم إن نصوص كتب المدارس ليست نصوصاً عميقة ومتداخلة بقدر ما هي نصوص تحقق هدف المحاور التعليمية وتحقق أهدافاً محددة. الشعر لا يغطي موضوعات كثيرة, مثلا لم يكتب كبار شعرائنا نصوصاً تصلح للدراسة في موضوع التكنولوجيا أو عالم الفضاء, من هنا كان دوري في رفد المكتبة العربية بما يحقق مجتمعاً أفضل في القادم من الأيام.
الترجمة والإبداع
بعض قصائدك ترجمت إلى لغات عدة اللغة الألمانية ضمن دراسة “أنطوبولوجيا”, ماذا يضيف هذا الحدث لمسيرتك كشاعر شاب؟
ليس ثمة ترجمة للشعر برأيي. الترجمة هي القول إن شعراً شبيهاً لما نقدمه موجودٌ في العالم. يقول الشاعر “أوكافيو باث” في الترجمة الشعرية وحدها تتآلف الأمانة والإبداع, أما الترجمة فهدفها النقل, والإبداع في النقل قتل, قتل من غير قصد أحياناً. لذلك يعجبني أن ندخل باب الترجمة من باب حب الكلام الذي نترجمه وليس من باب الواجب. تُرجمت نصوص عدة إلى الإنكليزية والفرنسية للتواصل مع جمهور يقرأ بلغات أخرى. إلا أن الترجمة علمتني ألا أتكئ على الإيقاع الذي يسقط تماماً عند أول نقطة انتقال من لغة إلى أخرى. الأمر الذي جعلني أحفر اكثر في جسد المعنى وأكتشف أهمية الفكر والسرد في النص الشعري. أما فيما خص دراسة “أنطوبولوجيا”, فقد أبرم الشاعر الصديق “نعيم تلحوق” اتفاقية بين وزارة الثقافة اللبنانية ومعهد “غوته” الألماني, إذ يدرُس طلاب الدراسات العليا في المعهد نصوصَ بعض الشعراء اللبنانيين الشباب ومن حسن حظي أنه اختارني بينهم. نصوص تعبر عن صوت الشباب اللبناني وتشكل جهاز ملاحة (نافيغيشن شعري) لتحديد موقع الشعر الذي يُكتب اليوم من الشعر في العالم. أصبحت الدراسة في نهايتها وهم سيصدرون كتاباً من دارٍ ألمانية قريباً يضم الترجمات والدراسات على أن يوقع برعاية وزارة الثقافة في قصر الأونيسكو في بيروت.
ما تقييمك للإنتاج الشعري اللبناني الشاب؟
قد لا أكون قاسياً إذا قلت إن الشعر اللبناني الشاب في أزمة حقيقية. ينبغي أن نوضح أنني عندما أقول الشعر أعني الشعرية, المياه الصافية التي تنتظر من يخرجها من بئر الوقت إلى المستقبل. انقسم الشعراء الشباب عندنا إلى مِلل وأحزاب أدبية اكثر شراسة من تلك السياسية, وتنافر من يكتب القصيدة الحديثة مع من يكتب سواها وأدى ذلك إلى جُزر ثقافية في مجتمع ثقافي ضيق, والانعزال يؤدي إلى التطرف والتأسن, في حين أن التفاعل يأخذنا إلى الجديد والمزيج. لم يقتل أحدٌ الشعر اللبناني الشاب بقدر ما قتله الشعراء الشباب. المواقف المسبقة التي تُسجل مع انطلاق النص, سواء إيجاباً أو سلباً, بحسب شكل النص واسم ملقيه, جعل من المعنى أمراً ثانوياً في حين أن الشعر هو ما نقول, وليس شكل القول. التصادم بين قطارات القديم والجديد دهس سرباً كبيراً من الشعراء عن طريق السهو. لا أقول ذلك لأعمم حالة من التشاؤم أو لأنعي الشعر أو أقيم مقبرة جماعية للشعراء الشباب. الحقيقة أن بعض النتاجات التي تبشر بالخير بحسب ما يقول الشعراء المكرسون بدأت بالظهور, وأن هناك شعراء تصالحوا مع فكرة الشعر بعيداً عن الجاهزيات والقوالب, وشعراء حداثيين أخذوا يفهمون أن التحول ينبغي أن يكون من نقطة, وتوقفوا عن لعن كل ما هو كلاسيكي على منابر الكلمة. وأعتقد أنه في السنوات الخمس المقبلة سيغربل الشعر الشعراء عندنا, وسيبقى عدد قليل منهم على قيد الكتابة وربما يشكلون حالات شعرية تفوق سابقاتها من الحالات التي ظهرت في الثمانينيات وما زالت تحتل المشهد الثقافي حتى هذه اللحظة.
شاركت في برنامج “أمير الشعراء” 2008, وحصلت على جائزة لجنة التحكيم, حدثنا عن أهمية برنامج من هذا النوع, ماذا يضيف للشعر والشعراء؟
“أمير الشعراء” برنامج يمزج بين ضوء الشهرة وعتم الانطواء على الإبداع. وهو قبل ذلك حالة متفردة في إعلام العالم العربي الممتلئ ببرامج الهواة والفن الهابط. أول ما يعززه لد المشتركين فيه, الإضاءة على مفهوم النقد الذي غاب تماماً عن أدبياتنا في السنوات الأخيرة, بل أخذ بُعد المجاملات على بُعد التقويم والتطوير. بعد ذلك إظهار مواهب شعرية دفينة في لحظة زمنية صاخبة ليس بالأمر السهل, كأن يقوم الشاعر ونصه بزيارة إلى مليون بيت عربي في ليلة واحدة.
ماذا عن أجواء هذا البرنامج؟
ما أعطاني إياه برنامج “أمير الشعراء” لم يستطع منبر عربي آخر أن يقدم نصفه لي, لأن تجمع أسماء شعرية حقيقية ضمن فندق واحد لمدة زمنية ليست بقصيرة كفيل أن يغني بما جاء به كل شاعر من ربعه وأرضه وثقافته. إن احتكاك الأيدي ببعضها يعطي الدفء العارم في أيام الشتاء, كذلك احتكاك فكر من هنا مع فكر من هناك يعيد إلينا دفء الثقافة في شتاءاتها الباردة.
حدثنا عن ديوانك الأخير “الفجر ظل داكن”, وهل توقعت أن يحصل على جائزة دبي الثقافية؟
لعل علاقة المبدع بالغاية التي يتوق إليها تشبه إلى حدٍ بعيد علاقة الطريق والبيت, الكثيرة الذكر في الشعر العربي, فبينما يقول البعض إن الطريق المتأججة شوقاً أجمل من الوصول, يرى آخرون أن التمتع بدفء البيت متعة لا يوازيها سعي وتوق, من هنا, أعتقد أن “جائزة دبي الثقافية للإبداع” هي من الغايات البعيدة التي تُمتع المبدعَ سواء في الطريق إليها أو في الوصول نفسه, لذلك كان لا بد أن أضع خطة محكمة قبل المشاركة بمجموعة “الظل فجرٌ داكن”, فانا مازلت دون الثلاثين عاماً ويشارك بالمسابقة شعراء مخضرمون ومن أعمار متفاوتة, وحظوظي قد لا تكون كبيرة بالفوز بمرتبة ما, وأشهد هنا أنني تعلمت شعري, وعدت إلى المعجم ولسان العرب لأراجع أصل كل مفردة كانت واردة في الديوان ليكون نقياً وغير موضع انتقاد بشكل يُبعد المجموعة عن المنافسة, ولأنني أعتبر المجموعة التي شاركت بها, مجموعتي الحقيقية الأولى وأنا الذي دخلت غمار النشر في سن مبكرة حتى بات لي الآن خمسة دواوين شعرية, ولكن ما فيها خليق بأن يعبر عني وعن نقلة شعرية ربما تترك بصمة ما في الشعر العربي, من هنا كانت متعة الطريق, الفضيلة التي مارستها الجائزة عن مسافة أمل, “الظل فجرٌ داكن” انطلاقة شعرية جديدة, سيظهر فيما بعد أنها نقطة تحول في نصي الشعري. وهنا أنتهز الفرصة للثناء على دور “شركة المطبوعات للتوزيع والنشر” على إصدارها المجموعة الشعرية بحلتها المُثلى, ومتابعتها في الإعلام ودور الثقافة.
انت عاشق يدعو الى الحياة في زمن الموت, في زمن الموت هذا هل من مستمع ومجيب لصوت الشعر؟
السؤال الحقيقة الآن عما إذا كان الشعر يستمع لصوت الناس. لم يعد الشعر قادراً على إسعاد العالم يا صديقتي. كنت أرى أن العالم قذرٌ جداً والشعراء كناسوه, بت أرى أن الشعراء تكاسلوا عن جعل العالم مكاناً أفضل وأكثر حياةً. كتب لي الشاعر “بلال شرارة” خلال الأيام الفائتة التي خسرنا فيها كبيرين من شعراء العرب الخالدين “جوزيف حرب” و”أنسي الحاج” قائلاً: “إذا كان الشعر من فضة فالموت من ذهب”, لعل الموت أفضل نهاية لنصوص حيواتنا التي نحياها بالقلق والترقب. الشعر آخر الملذات التي تحولت إلى ترفٍ ثقافي. الشعر الذي أسس اللغة واللغة التي كتبت الفلسفة والفلسفة التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه. إذن الشعر هو السبب في القتل, قتل كل شيء حتى نفسه.
الكتابة للأطفال
كتبت “قوس قزح” للأطفال, لماذا؟
تبينُ آخر الدراسات أن الشعر يثير أكثر من منطقة في دماغ الأطفال. للموسيقى دور وللألوان دور ولكن للشعر أدوار. من هنا كان لزاماً على أن أفكر في احتضان مرحلة الحضانة, وكتبت شعراً للأطفال. عملت بإرشادات التربوي الصديق الدكتور “سلطان ناصر الدين” فراعيت فيه الفئات العمرية والمفردات والتراكيب لكنني لم أتساهل أبدا في تعميق الصورة قدر المستطاع بالأدوات الممكنة. تفاجأت أن نصاً يُدرس في الصف الأول تحت عنوان “بيتي وطني” مطروح للنقاش في صفٍ ثانوي للبحث في تعبير “أسكن فيه يسكنني” والعلاقة الرجعية للسكن. أعتقد أن الكتابة للأطفال رسالة قدسية لم يحملها كثيرون ولكن حملها قديسون أمثال سليمان العيسى وحسن العبد الله وغيرهما.
علاقتك الوثيقة بالتفعيلة والعامودي هل هي سر من أسرار نجاحك؟
ربما هي سر من أسرار البطء أيضاً, الحقيقة أن عالمنا العربي المنقسم على نفسه منقسم على الشعر أيضاً. طبعاً كانت التفعيلة تأشيرتي للفوز ببرامج ومسابقات عدة بحيث أن اللجان ما زالت بمعظمها تفضل الكلاسيكي, والذائقة العامة تفضل الإيقاع على المعنى. محاولاتي التي أعتبر نجاحها نجاحاً لمشروعي الشعري على التجديد بالمعاني من غير المس بالمبنى الكلاسيكي بحيث أنني أنال رضا نفسي أولاً والنقاد بتنوع مدارسهم الفكرية ثانياً.
ألا تعتقد ان هناك علاقة حنين بين متذوق الشعر وبين قصائد التفعيلة والعامودي؟
التنظير لغة المتقاعدين, لا أعتقد أن التسميات هي الطريقة الأنجع لخلاص الشعر, إن ارتهان شعرائنا وخصوصا الكبار منهم إلى مناظرات تناقش المبنى والاسم متجاهلة المضمون والمسمى لهو خطئية بحق الشعر سيذكره التاريخ.
أنا أتفهم جيدا نظرية التطور. وإن ماء لا يمشي هو ماء آسن وكوكب لا يدور حول مصدر حياته وطاقته كوكب غير جديرٍ بالحياة, لذلك تطور اللغة, بما في ذلك من نحت وتطوير في المعاني والمفردات, أمر أكثر من ضروري, ثم إن تطور المباني أمر مبرر شرط أن ينبثق عن موهوب حقيقي وشاعر متمرس سلك الشعر من بذوره إلى حداثته وأن هذا التطور لم يهبط فجأة على الشعر العربي إنما هي نهضة إنسانية شملت العلوم والآداب والفلسفة والتكنولوجيا العالمية, ولي مقال يربط بين تطور الشعر والفيزياء يوضح كيف أن الفيزياء الحديثة كانت متجانسة مع ذاتها وسابقتها واللافت أن أول قانون سنه آينشتاين يؤكد أن قوانين الفيزياء الكلاسيكية صالحة في عوالم الفيزياء الحديثة وظل كل أرباب الحداثة العلمية متمسكين باحترامهم لما قدمه العلماء القدامى وانطلاقهم من الأصل حتى أنهم صنفوا نيوتن على أنه العالم الأول بين الآتين والسابقين اعترافاً بالكلاسيكية وأهميتها, أطرح هذا النقاش لأسقطه على التطور في الشعر الذي لا يبعد كثيراً عن أي مجال آخر-باعتبار أنني موحد وأعيد كل التناقضات والمتفرقات إلى أصلها الواحد الأحد- لأتمنى لو كان الشعر حديثه متجانساً مع قديمه فلا هذا يلغي ذلك ولا العكس, ولكن الموضوع الآن خرج عن السيطرة فبسبب هذا الانفتاح الطيب نتج انفلاتٌ غير مقبول فكثر (الشعراء) وقل الشعر وصار يكفي أن تركب جملا بلا غرض فني وكلمات متنافرة في جملة غير مفيدة لتقول إنك شاعر, علماً أنني أحترم كل محاولة وأقدر كل كلمة ولست مخولا-لا أنا ولا الآخرين- لرمي الألقاب والتُهم ومنع الآخرين من إبداء آرائهم التي أجل وأحترم إنما على الانبياء أن يتسموا بمكارم الأخلاق والرسالات والمعجزات قبل أن يكونوا من حَمَلة الكتب, وأقر أنني مؤمن أن التفعيلة ما زالت قادرة على تأدية غرضها كما كانت منذ ألف عام وما زالت وسيلة ناجعة للتعبير وقادرة على الوصول تماماً كأي مبنى آخر.
الحقيقة أن التعبير نفسه بالنسبة إلي أهم من شكل التعبير, ولم تؤرقني يوماً مسألة الشكل, ولم أتعاط مع قصيدة النثر على أنها ناقصة بل كنت أراها بعين الماغوط الذي أحرجنا, كلنا كما قال درويش, وما فتئت من قرائها الأوفياء. والصدق أقول لك, بعد محاولات تملأ مئة سلة مهملات اقتربت جداً من الاقتناع أن التحديث من داخل الشكل الكلاسيكي بات مستحيلاً, وأن كل محاولاتي لجر مياه الحداثة إلى بئر الخليل لم تزدني إلا عطشاً. وبصدق أكبر أقول لأصدقائي: لم يعد ثمة جدران لدينا لتعليقات المعلقات.
هل تقرأ مستقبل الشعر حين تقول “إن حداثيي اليوم هم كلاسيكيو الغد”؟
قلت أكثر من مرة: إن مشكلة بعض قصائد النثر أنها كلاسيكية أيضاً, إذ هرب كاتبوها من القوالب والجاهزيات ليتلصقوا بقوالب أخرى, ومشكلة كثير ممن يتعاطون قصيدة النثر أنهم لا يميزون تماماً بين النثر الشعري والشعر المنثور وقصيدة النثر, وما زلت, وسأبقى, أتحسس من إطلاق التسمية, أي قصيدة نثر, جزافاً على كل عقد كلمات انقطع خيطه من غير رؤية فنية أو لسبب آخر, فالويل لنا إذ كثر فينا الشعراء وقل فينا الشعر. وهنا أقول, كما أن ال¯(بعد قليل) هو غد الراهن, فإن حداثيي اليوم هم كلاسيكيو الغد, وإذا لم يتم الانتباه إلى هذه النقطة فالشعر آخذ بالتلاشي من غير شك ولا رحمة, وفي عالم المفاجآت هذا فإن التنبؤ بمستقبل للشعر هو وسيلة للبقاء على قيد الأمل. الدنيا تتغير بشكل كبير. من يقرأ قانون “مور” للتغير يعرف أن معلومات الإنترنت تتضاعف مرة كل سنة ونصف, وهذا رقم مرعب وأسأل: هل ستستطيع التقنية أن تكتب الشعر بدلاً عنا؟ من هنا أقرأ المستقبل وأقول: إن اللحظة التي أتحاور معك هنا فيها, تعبر ماضياً عابراً بالنسبة لتاريخ إصدار العمل.
نافست ولا تزال اسماء شعرية كبيرة في لبنان بل وتفوقت على الكثير منهم ألا يثير هذا الامر غيرة من يعتبرون انفسهم ذوي باع طويل في عالم الشعر؟
لا أعتقد, بل هم كانوا رافعتي حتى تثاقل بي كل شيء. ما قدمه الشعراء المكرسون من دعم لي يكاد يكون أهم مما قدمتُه للشعر حتى هذه اللحظة, وإن كل ما أطمح إليه في المستقبل هو ألا أخيب ظنهم بي كحاملٍ لراية الشعر في ماضي الأيام الآتية.
- See more at: http://al-seyassah.com/مهدي-منصور-سيغربل-الشعر-الشعراء-ليُبق/#sthash.2DrFoRLc.dpuf
شاعر لبناني، وأستاذ جامعي متخصص بالفيزياء والتربية، من مواليد 29 شباط، يعدُّ من أبرز الوجوه الشعريّة في لبنان والعالم العربي.
ابتدأ مشواره الشعري في برنامج المميزون الذي عرضته المؤسسة اللبنانيّة للإرسال عام 2003 حيث حصد الميداليّة الذّهبيّة عن فئة الشعر المرتَجَل.
صقل منصور موهبته الشعريّة وأفقه الإبداعي عبر دراسته وتدريسه الادب العربيمن جهة ودراسته الفيزياء والرياضيات التطبيقية والتربية حتى نال شهادةالدكتورة في فيزياء الكم.
لعلّ أبرز المحطّات التي كرّست اسم الشاعر مهدي منصور عربيّاً كانت مشاركته في برنامج أمير الشعراء 2008 الذي تنتجه وتبثّه قناة ابوظبي الفضائيّة حيث نال الشاعر جائزة لجنة التحكيم.
في شعر مهدي منصور، تنسجم الاصالة وhلحداثة معاً انسجاماً تامّاً حتى لكأنهما تبدوان قبلتين لثغر واحد، فهو يكتب بلغة عصره ويتعمق في التجارب الشعريّة الحديثة، ولكنّه يحافظ على الإيقاع الموسيقي الساحر الذي يميّز الشعر العربي، الأمر الذي نال استحسان كبار شعراء لبنان فدعموه وقدموا له.
ويتّخذ شعر منصور طابعاً إنسانيّاً شاملاً وبُعداً كونيّاً يترجم أدق الهواجس اللاإنسانية ويطرح الاسئلة التي تضع الإنسان في مواجهة مع ذاته، الامر الذي خوّله الحصول على جائزة ناجي النعمان الثقافيّة عام 2009 وشملت الجائزة طباعة ديوانه الأخير "يوغا في حضرة عشتار" وعلى جوائز وميدالياتٍ وأوسمةٍ عديدة لا يتسع المكان لذكرها.
مثّل منصور وطنه في المحافل الشعرية والمهرجانات الثقافية العربية والعالمية.والجدير ذكره أنّ قصائد الشاعر منصور تُدرّس في بعض كتب الأدب العربي في المناهج اللبنانية والعربيّة كما وترجمت بعض قصائده إلى لغات عدة كان آخرها ترجمة إلى اللغة الألمانية ضمن دراسة "أنطوبولوجيا" أعدّها معهد غوتّه الألماني...
صدر للشاعر:
متى التقينا 2004
انت الذاكرة وأنا 2007
قوس قزح 2007
كي لا يغار الأنبياء 2009
يوغا في حضرة عشتار 2010
أخاف الله والحب والوطن 2016
الأرض حذاء مستعمل 2016
فهرس الانتظار 2018