حاورته ناهلة سلامة،
“يا ليتني حجرٌ ما ليصقُلَني الماءُ…أُوضَعُ في حُجْرةٍ مثل منحوتةٍ، أو تمارينَ في النحت… لا أحنُّ إلى أي شيء فلا أمس يمضي ولا الغد يأتي ولا حاضري يتقدَّم…ليت الفتى حجر!” عبارات مقتبسة من إحدى أكثر قصائد محمود درويش وجدانية والتي جاءت ضمن ديوان “أثر الفراشة”. والفراشة هنا هي ذلك الكائن القادر من خلال جناحيها على خلق طوفان في مكان آخر من العالم، وفق نظرية الفوضى.
طوال ساعتين، وتحت عنوان “أثر الفراشة”، قرأ مهدي منصور قصائد لمحمود درويش، وكذلك قصائد من ديوانه الخاص الجديد “ديواني الأول”، متنكراً على حد قوله، لكل ما صدر له سابقاً.
مهدي المتوجه في الشهر المقبل الى الولايات المتحدة لإلقاء الشعر في بلاد العم سام، قدم عمله ضمن الأمسيات الرمضانية على مسرح بابل قبيل الذكرى الرابعة لغياب الحاضر الدائم محمود درويش والتي تقع في 9 آب. الأمسية التي حاولت كسر بعض المسلمات التقليدية لم تقتصر على القراءات الشعرية بل كانت مشاركة ل ريتا بو صالح غناءً يرافقها على العود وائل ملاعب ، ولوحات رقص تعبيري ل بشرى علامة ورشا دبيسي.
وقد أثارت هذه الأمسية جدلاً في وسط الجمهور؛ حيث اعتبر البعض أنّ ما قُدّم على المسرح جاء مغايراً للتوقعات من حيث التنظيم والتناسق، إلا أنّ آخرين رأوا فيها تجربة شبابية يتوقعون لها تطوراً في المستقبل.
سكون ألتقت بالشاعر مهدي منصور، صاحب الفكرة والمبادر لإحياء ذكرى الشاعر الكبير محمود درويش في تلك الأمسية، وكان هذا الحديث.
- لماذا اخترت ان تكرم ذكرى محمود درويش في هذه الأمسية؟
جميعنا تربينا على أشعار محمود درويش ونشأنا عليها، وحفظنا الكثير منها عن ظهر قلب، ولكن الكثير من الناس لا يعلمون أن هناك المزيد من أشعار محمود درويش التي لا يعلم الغالبية عنها شيئاً. جاءت مناسبة “اثر الفراشة” لنوجّه من خلالها تحية الى روح الشاعر الراحل الذي لا يرحل محمود درويش، خصوصاً أن الكثير من الشعراء مازال يكتب عامودياً وتفعيلياً وفق مدرسة درويش المستمرة، وكذلك للتأكيد على الاهتمام المتواصل بالقضية لدى الشباب المعاصر ومنهم أنا، مع فارق التجربة والخبرة.
أثر الفراشة ليس فقط حالة شعرية بل لها نظرة فلسفية بدأت بتلاوتها ببداية الحفل “محال ان تقطف زهرة في الارض من دون أن تهتز لك نجمة في السماء”، لأن كل ما نقوم به في هذا العالم من شأنه أن يؤثر على أماكن أكثر بعداً. واذكر هناك مقولة أحد الفيزيائيين الفلاسفة الفرنسيين الذي يقول “اذا اهتزت فراشة في الصين فإن ذلك يؤدي الى اهتزازات في باريس” وهذا ما بات مثبتاً علمياً من قبل العديد من العلماء.
بالتالي، فأثر الفراشة موضوع بالغ الأهمية ولا يقتصر على عنوان فيلم تم انتاج جزء اول وثان له، ولا على عنوان لأحد دواوين درويش، بل رؤيتي أن كل ما قدم على هذا المسرح له الأثر القليل او الكثير على مسارح عدة من حوله.
- ألم يكن لديك خشية أن تتلو قصائدك في ذكرى عملاق من قامة محمود درويش؟
بالطبع كنت خائفاً حتى حدود الرعب لأنني سأتجرأ وأقرأ قصائد درويش وقصائدي، ولكن إلقائي لقصائد درويش اليوم كان أكثر ثقة من إلقائي لقصائدي الخاصة، لسبب بسيط أن قصائد درويش قد حصلت على اجازة مرورها من الناس إن جاز التعبير. بالمقابل، فإنه عند قراءتي لقصائدي الخاصة أشعر كأني أقاتل باللحم الحي أو بالنص العاري. اختلف الشعر بعد محمود درويش واختلف مفهومه ومبناه، ولكن عندما اقول اننا متمسكون بهذه المدرسة لا أعني أنا، بل أعني جيل كامل من الصبايا والشباب الذين يكتبون بهذا النفس الشعري.
جاء اختياري لقصائد هذه الأمسية بمثابة تحدي لأنها ربما قصائد غير جماهيرية وكان صعباً بالنسبة لي أن أقرأ هذه القصائد ولا تصفق لي القاعة، غير أن الأمر برمته كان مقصوداً. ما اطمح اليه ان نذهب الى ما وراء الجدار وان نكتب سوية لغة عالمية للشعر، لا ان نحصر انفسنا بعبارات محدودة وجمل معلبة.
حتى اختياري للأغاني جاء من ألبوم “سقوط القمر” الذي لم يحظ بالشعبية اللازمة لأنه أعتبر في الكثير من الأوساط اليسارية بمثابة ترف ثقافي. كل هذا كان لتحقيق نفس الغاية التي ذكرتها وهي الإضاءة على الرقي الذي لم يأخذ حقه، ومنها أغنية “أجمل حب” التي أبدع فيها مرسيل خليفة، قمنا بإعادة توزيعها ووضعناها في قالب جديد وحديث. وأذكّر أنّ قصيدة محمود درويش على أهميتها فإنها تدين في بعض جوانب إنتشارها ونجاحها للفنان مرسيل خليفة، الذي باعتقادي أنهما اتفقا على أن لا يغني مرسيل لغير محمود درويش ايماناً منه بالغناء.
- ماكانت الغاية من إضافة الرقص على المسرح في هذه الأمسية، بموازاة الموسيقى والشعر؟
في هذه الأمسية، كانت رغبتنا أن لا نغفل الرقص التعبيري لأنه لا يمكن أن نختم هذه الأمسية بقصيدة درويش “سنصير شعباً” والتي يقول فيها “نحترم الغانية والراقصة”، وهذا لن يحصل من دون رقص، ومن دون ان يتكلم جسدنا. نحن يمكن أن نصير شعباً من خلال التعبير الذي يمكن أن يفهمه من لا يتقن اللغة العربية. خشبة المسرح الصغيرة هي برأيي كانت “أوسع من المرايا”.
الرقص لم يرافق فقط قصائد المحتفى به بل رافق الحفل بمجمله وهذا ما كان غير مألوف في حفلات مماثلة بل بحد ذاتها تجربة جديدة، ما نراه اليوم في الرقص هو رؤيا مغايرة. لقد رأينا سوية كيف استطاعت رشا أن تلعب من خلال قصيدة “احبك” لعبة الوجوه والتي تطلب مستوى فني راقٍ تظهر الأبعاد التي تتجاوز الحياة، والتي تتجاوز الحب التقليدي بين الفتاة والشاب. وهذا ما رأيناه في قصيدة أخرى هي “كم كنت أحمقاً” والتي تعكس التجربة اليومية لنا حيث نحب فتاة ونبتعد عنها كي نذوق لوعة فراق الحبيبة، ونكتب القصائد فيها بشكل أجمل، قد عبرت عنها بشرى من خلال رقص مبدع. وأؤكد لك أن الرقص هو تعبير عامودي عن رغبات أفقية، وهي رغبات شعب بأكمله تسكنه الأفقية في لاوعيه، وتدفعه ليمتدحها.
- ماذا اضافت لك هذه التجربة التي قدمتها في هذه الأمسية؟
أتمنى أن لا تكون هذه التجربة قد أخذت من رصيدي ! في الحقيقة وبعيداً عن المزاح، فهذه التجربة قربتني أكثر للصبايا وكيفية التعاطي معهن، وانني ما زالت على عاداتي القديمة أن أختار قصائدي قبل دقيقة واحدة من الحفل بالرغم من كل التنظيم الذي شاهدتموه. وهذا ما أكد لي عبثيتي بالشعر وليس بالحياة.
ثانياً، أعتقد أن هذه التجربة أضافت لي التناغم من خلال الموسيقى التي كان يسمعها بيتاغورس حين تأمل النجوم ووصفها بـ”الموسيقى الكونية”. اليوم لعبنا دور الآلات والأوركسترا التي عزفت هذه الموسيقى من خلالنا حتى أن النشاز هو برأيي كان موجة مؤثرة في مكان ما، وربما في الناس الذي لم يتنبهوا من قبل لها.
لقد اكسبتني هذه التجربة نظرة مختلفة لجسد المرأة والذي رأيته من منظار فني، وأبعاد تعبيرية جديدة.
- هل هناك أي نية لديك لتكرار هذا العمل؟
الأمر يعتمد على رغبة الصبايا بالمتابعة وبشكل عام لدي رغبة دائمة على تكرار الأمر كما سبق لي أن خضت عملاً مماثلاً مع جنفياف يونس من خلال قالب طربي كتب له النجاح في العام الماضي، لكن الفارق أن عملنا اليوم هو نخبوي بامتياز.
الثقة الزائدة بالنفس قد تكسرنا، وهذا بالتحديد ما حصل عندما تخلفت عن موعد البروفا وهنا أعترف بأنني أخطأت. اليوم اكتشفت أنّ هناك بعض الجوانب التي كان يجب ان يتم التحضير لها والتنسيق حولها بشكل أفضل، وهذا ربما ما خلق فترات صمت غير مبررة على المسرح خلال هذه الأمسية. لكن الجو العام كانت تسيطر عليه العفوية.
- ماذا تخبرنا عن أعمالك ومشاريعك المستقبلية؟
حالياً أنا في طور الإعداد لجملة أعمال. وأهمها ديواني الجديد تحت عنوان “ديواني الأول” والذي من خلاله أتنكر لجميع أعمالي السابقة كما نتنكر لمن مروا في حياتنا سابقاً والذي لفتني لضرورة القيام بهذه الخطوة هو بعد أن تُرجم عدد من أعمالي الى اللغة الألمانية مع عدد من الشعراء اللبنانيين والعرب، إذ تنبهت الى أن القصيدة فقدت إيقاعها في عدد من القصائد التي تعتمد على التفعيلة لهذا قررت أعمل على المضمون بشكل أكبر.
كما من المقرر أن أتوجه في 7 آب الى اميركا لغايات الدراسة الجامعية، حيث يأتي الشعر على هامش الرحلة من خلال أمسية سأحييها في ديترويت. بعدها سأتوجه الى اريزونا كي اتابع دراستي الجامعية هناك وبالتحديد شهادة الدكتورا، على أن أغادر الى كاليفورنيا لأتابع مسائل تتعلق بالتأمل ما بعد الطبيعة والـQuantum Physics. سأمكث في الولايات المتحدة لفترة تقارب الشهر على أن أعود في مطلع ايلول.