عن عمرٍ يناهز الأربعين كتاباً، وحين لم تقتله هموم الوطن، قتله المرض. الواقع أنّ كليهما عُضال. لقد ضاق الهامش بينهما إلى أن تسنّنا كشفرتين لمديةٍ واحدة. سليمان تقيّ الدين، الذي جلّ ما أراد لوطنه أن يُحضر عرش سبأ، ولم يستطعْ، ليس لأنّ الهدهد خذله، بل لأنّ كليهما محطّم، فلمْ يرتدّ إليه بصرُه.
رحل سليمان تقيّاً كراهب علمانيّ. تُراه إلى أين رحل؟ إذا حلّ الليل أين يكون النهار؟ هل انتبذ لراحته مكاناً قصياً في القصائد؟ أو أنه فضّل مرافقة «الأبنودي» على حضور عزائه؟ لماذا لم يُخبرنا قبل أسبوع مثلاً لكي نكتب سقفاً جيّداً يقينا العراء الذي خلّفنا فيه؟ ثمّة كتّاب قادرون على الديناميكية أيضاً خارج الورقة.
بالنسبة لقامة موغلةٍ بالتاريخ تأريخاً وتحليلاً، تُعتبر علاقتنا حديثة العهد، وأظنّها ولدت حقاً حين انتخبناه، بما يشبه التزكية، أميناً عاماً لاتحاد الكتاب اللبنانيين، منذ ست سنوات تقريباً. وتعزّزت تلك الرابطة حين استقال. أذكر يوم طلب منّي تقديم احتفالية تكريمية في قصر الأونيسكو لما يزيد عن مئة وستين مبدعاً من بلادي. كانت فكرة الحفل صدمةً لمجتمع يحتاج موتاً ما لكي يكرّم مبدعاً تلو مبدعٍ وبالتقسيط. تعرّفت إلى عائلته، كأنه يقول ألا فرق بين أهل بيته والهيئة العامة في الاتحاد. في ذلك اليوم بالتحديد تعرّفت إلى كتّاب عديدين من أبناء جيلي. كنّا مأخوذين بالتعرّف إلى أنفسنا وخياراتنا، في حين كان ينجز فروضنا عنّا، يجمعنا، لأنه كان مؤمناً بالشباب كنافذة وحيدة للنفاذ. لقد دعمنا بالفعل. وقد كنّا على علمٍ بصعوبات العمل الثقافي وبإمكانيات الاتحاد المحدودة، وحين تركناه وحده بعد أن حلّ علينا رؤيةً وتخطيطاً، استقال، واستمرّ بالكتابة. أتُراه يمارس الفعل نفسه اليوم؟
ولعلّ غزارة إنتاجه في مجال الصحافة والفكر والنقد والثقافة والمجتمع حجبت قليلاً حقيقةً ليست معروفة لدى كثيرين، حقيقة أنه شاعرٌ لا يكتب غير الدهشة. الشعر، نعم. لا أقصده فعل حياةٍ أو حالات تذوّق، إنما رؤىً ونصوصاً متقنة. في إحدى الأمسيات، أخذني من يدي وقال: سأفاجئهم بالشعر، وسأرمي نصاً واحداً في وجه الأصنام كان يقصد وقتذاك الذين اعتبروا اتحاد الكتاب مكاناً للشعراء واعتبروه صحافياً، الذين لم يعترفوا أصلاً بشعراء الأنواع الأخرى من داخل الشعر. وكنتُ واحداً منهم حين ألقى قصيدة مكتملة الأدوات بالمحكيّة اللبنانية. لقد بنى سليمان بيوتاً من الجمالية بعيداً عن ممالك الشعراء الذين يرجمون كلّ محاول. وفي زمنٍ يكثر فيه الشعراء ويندر فيه الشعر، كان يخبّئ المعنى في قلبه، وقلبه في القصائد كمن يخاف عليه من الضوء والمطر.
يا أصدقاء سليمان، فتّشوا عن الأطفال الذين ولدوا خلال الساعات الماضية وامنحوهم الحياة، ولو اضطررتم إلى وضعهم في صناديق وإلقائهم في نهر الأمل لحمايتهم من مقابض الأنظمة، اتركوا لهم البلاد وشأنها. انقذوهم لعلّ من بينهم سليمان تقي الدين.