تحررت من الموت، احتلتنا الحياة
صباح الخير يا جنوب... صباح البيت والأهل والجيران والقرى، صباح الوديان والرعيان والجبال والرجال، صباح المعاول في الأرض تدفن حكايا الشجر والبشر والجداول توزعها على القلوب بالتساوي، صباح الحارات التي تعرف قصص العاشقين عن نبض قلب، صباح الشمس التي تزور البيوت وتسكن في الأرغفة...
صباح الموج الذي من شدّة الجري إليك تعرّق إبطه فكان البحر، صباح التنهيدات والصلوات التي حين تكثّفت على أكتاف العجائز صارت تلالاً ومغاورَ.. صباح الخير يا حبيبي، فأنا كلّي ليلٌ وأنت فاتحة النهار، وأنا مجازٌ ضالٌ وأنت الحقيقة. أنا الكلام الذي يستنجد بمجدك كلّما ضربه صمتٌ عضال، وأنت الصمت الذي يخبّئ جلّ قصائدنا في القصب..
قد تسأل لماذا أكتب إليك، وحياةِ عينيك، ما هذا ابتهالٌ لسمائك الباسمة ولا نفاذٌ إلى صدرك من خلال قصيدة، إنني أشحذ المعنى لتغفر لي الغياب الطويل، وإنني في يومك خجولٌ، أطل عليك، إنما من خلال الجريدة...
لأنك عندما تحرّرت أنت من الموت احتلّتنا الحياة.
أكتب إليك عنّا بعد عقدٍ ونصف، بالصدق الذي أوصيتنا، وبالحب الذي تواصينا، لأقول أننا لم نفهم جيّداً ما تقوله النوافذ التي فتحتها على شكل جراح وخنادق... وأننا لم نقرأ تجاعيد يديك جيّداً.
لقد رافَــقنا خطاب الثورة بعد التحرير فلم ننصف الأخير، فظلت لغتنا عموديّةً حين تفتّحتَ بكامل أقمارك كقصيدة نثر. نعم، لقد كان الانتصار أكبر من قصائد الشعراء، وأرقّ من سمفونياتنا التي رفعت إليك. ربما لأننا تعلمنا أن نموت لأجلك، لم نكتب لك الحياة كما ينبغي، وأنا أعرف كم مللت الصراخ في الأناشيد التي تشبه السياج، والخطابة في القصائد المنتهية الصلاحية، والنصوص التي وجدت مقاعد لها في المهرجانات ولم تجد معبراً إبداعياً إلى مناهج الدراسة. وأنت قلت بكل ما أوتيت من سحر إننا نستحقك حين نكتبك جيّداً، ونتحرر معك وفيك حين نخرج من ثقافة الطبل إلى الموسيقى. فإذا كان بعضنا يستحضر الثورة الفرنسية ونتائجها وما تبعها من ممارسات بحق المناوئين والعملاء في معرض مديح ثورة اللبنانيين التي أوصلتهم إلى الانتصار، فإنني ألْفتُ إلى أنّ ما وصلنا عنها يعود إلى الثقافة والأدب والفن الذي أنتجَ آنذاك، فأين نحن مما أنجزنا؟ وأين حبرنا من دماء الشهداء وثقافتنا من أنين الجرحى ومعاناة الأسرى؟ عندما ندرك الفارق بين التأريخ والإبداع في النص نستطيع أن نفهم الفارق بين التحرير والحرية.
لقد آن لنا أن ننتبه أنّ الأهازيج لا تشبه الفرح دائماً، وأنّ العالم لم يتنشق هواءك الطلق بقدر ما تنفّس الدخان في النشرات كتبت لأجلك. ألهذا ركلت الخوذات والدبابات والجنود؟! لقد آن لك أن تعلمنا كيف نتحرر يا جنوب. أين من صمودك الأبديّ محاولاتنا الطيبة، إنّ كلّ من لم يمت بنار الشوق إليك مات من فرط الدخان. مسموحٌ بعد خمسة عشر عاماً من الاحتفاء أن ننظر إلى أنفسنا ونحن نرقص بالثياب ذاتها على المسرح المتجدد والجمهور الذي ينمو ويتغير، فلا أعرف إذا كنا حافظنا على الانتصار حين لم نوائم بين السنوات ومشرحة النقد، فظلّ أسير أسبابه. إنّ كلّ حيٍّ لا يسمع صوتاً للشهداء لا يعوّل عليه.
ثمّ كيف نتذكر الانتصار وننسى أطرافك الجريحة؟ لا يُشبِعُ العاشقَ نهرٌ من العسل، فهل شبعنا منك لننسى مدامع شبعا والسماوات السبع؟ وهل نستحق شمسك حين نضيق بشرايينك المحتلة؟ لسنا أهلاً للعوم في أزرقَ يغسل قدميك من صيدا حتى الناقورة ولا نسمع خطاً أحمر ينزف بنا خلف الخطأ الأزرق.
مساء الخير يا جنوب.. إنّ ساعة في حضرة ترابك كخمسين سنةَ مما يعدّون..
مساء الخير يا رافع التبغ في أيدي النساء مسابح ومآذن.. تراني أخبرتك عنك وعنا قبل صلاة الأتربة... فحين تستطيع يا حبيبي.. طمنّا عن زيتونك والأغاني وعن البنادق التي دفنت مع الرجال في الأرض فصارت سرواً وياسمين..
وبعد...
طمنّا عن حال جنوبك يا جنوب...
شاعر لبناني، وأستاذ جامعي متخصص بالفيزياء والتربية، من مواليد 29 شباط، يعدُّ من أبرز الوجوه الشعريّة في لبنان والعالم العربي.
ابتدأ مشواره الشعري في برنامج المميزون الذي عرضته المؤسسة اللبنانيّة للإرسال عام 2003 حيث حصد الميداليّة الذّهبيّة عن فئة الشعر المرتَجَل.
صقل منصور موهبته الشعريّة وأفقه الإبداعي عبر دراسته وتدريسه الادب العربيمن جهة ودراسته الفيزياء والرياضيات التطبيقية والتربية حتى نال شهادةالدكتورة في فيزياء الكم.
لعلّ أبرز المحطّات التي كرّست اسم الشاعر مهدي منصور عربيّاً كانت مشاركته في برنامج أمير الشعراء 2008 الذي تنتجه وتبثّه قناة ابوظبي الفضائيّة حيث نال الشاعر جائزة لجنة التحكيم.
في شعر مهدي منصور، تنسجم الاصالة وhلحداثة معاً انسجاماً تامّاً حتى لكأنهما تبدوان قبلتين لثغر واحد، فهو يكتب بلغة عصره ويتعمق في التجارب الشعريّة الحديثة، ولكنّه يحافظ على الإيقاع الموسيقي الساحر الذي يميّز الشعر العربي، الأمر الذي نال استحسان كبار شعراء لبنان فدعموه وقدموا له.
ويتّخذ شعر منصور طابعاً إنسانيّاً شاملاً وبُعداً كونيّاً يترجم أدق الهواجس اللاإنسانية ويطرح الاسئلة التي تضع الإنسان في مواجهة مع ذاته، الامر الذي خوّله الحصول على جائزة ناجي النعمان الثقافيّة عام 2009 وشملت الجائزة طباعة ديوانه الأخير "يوغا في حضرة عشتار" وعلى جوائز وميدالياتٍ وأوسمةٍ عديدة لا يتسع المكان لذكرها.
مثّل منصور وطنه في المحافل الشعرية والمهرجانات الثقافية العربية والعالمية.والجدير ذكره أنّ قصائد الشاعر منصور تُدرّس في بعض كتب الأدب العربي في المناهج اللبنانية والعربيّة كما وترجمت بعض قصائده إلى لغات عدة كان آخرها ترجمة إلى اللغة الألمانية ضمن دراسة "أنطوبولوجيا" أعدّها معهد غوتّه الألماني...
صدر للشاعر:
متى التقينا 2004
انت الذاكرة وأنا 2007
قوس قزح 2007
كي لا يغار الأنبياء 2009
يوغا في حضرة عشتار 2010
أخاف الله والحب والوطن 2016
الأرض حذاء مستعمل 2016
فهرس الانتظار 2018